محال بيع التجزئة.. نكسة حضارية
عندما يعتاد المرء منذ الصغر مشاهدة منظر معين أو ممارسة عمل ما، لا يكون استمرار ذلك الشيء غريباً ولا لافتاً للنظر بالنسبة له، ونقصد بذلك انتشار محال بيع التجزئة، أو ما نطلق عليها ''الدكاكين'' التي تغص بها مدننا وقرانا، وكأننا لا نستطيع العيش دونها. ونحن هنا نتحدث عن أمر في غاية الأهمية، لما له من تأثير اجتماعي مخيف وعوامل اقتصادية قد تصل إلى مستوى الاحتكار غير المشروع والإجحاف الفاحش بحق شبابنا العاطلين عن العمل ومظاهر غير حضارية تتخفى خلف أبواب حديدية بشعة المنظر. ونود معرفة المبرر الحقيقي لوجود هذا الكم الهائل من المحال التجارية الصغيرة بين ظهرانينا، تدير قسما منها عمالة أجنبية والقسم الآخر الأكبر تملكه أيضا العمالة الأجنبية. هذه معادلة غير عادلة، وهي من صنع أيدينا. والطامة الكبرى، أننا نشعر الآن وكأننا لا نستطيع الاستغناء عنها لأننا، وبقدرة قادر، سمحنا لها بأن تصبح جزءا من حياتنا ومنظرها المقزز بات مألوفا لدينا، ناهيك عما تفرزه بعض هذه المحال من المخلفات التي تملأ أرصفة الشوارع. إلى متى سنظل غافلين عن سلبياتها وتداعيات وجودها بهذا الكم الهائل وغير المنضبط؟
وهل يُصدِّق عاقل أن المسؤولين لا يدركون مدى خطورة انتشارها غير المحدود دون ضوابط تحكم العاملين فيها، مع عدم وجود الحاجة إلى محال يزيد عددها على عدد مساكن المواطنين؟ أليس هذا دليلا على التخلف وقصر النظر وغياب التخطيط السليم وتفشي عدم المبالاة والتهرب من المسؤولية؟ نحن نعلم أن المواطن ربما يكون السبب الرئيس لوجود وانتشار هذه الظاهرة الشاذة، بسبب الجشع والتحايل على النظم وتفضيل المصالح الفردية الخاصة على المصلحة العامة، التي هي أكبر أهمية بالنسبة للمواطن الصالح. وما كان يجب أن تسمح الجهات المختصة (وليتنا نعرف بالتحديد تلك الجهات المختصة) من الأساس بنمو ظاهرة تهدد تركيبة مجتمعنا ومستقبل اقتصادنا وتسمح للعمالة الوافدة بالاستيلاء على مقدراتنا وحرمان شبابنا من فرص العمل في مجالات لا تحتاج إلى أي نوع من المهارات المهنية أو التقنية. فالباب مفتوح لأي مواطن أن يُمنح رخصة ممارسة التجارة ويستأجر محلا صغيراً ثم يستقدم ما شاء من العمالة الأجنبية غير المدربة ويسلم لها المفتاح. ويتفق المواطن، في بعض الحالات، مع الوافد على تسليمه مبلغا زهيداً في نهاية كل شهر وهو جالس في بيته. ويتولى الوافد عملية البيع والشراء لحسابه الخاص دون حسيب أو رقيب. راقبوهم، فهؤلاء هم الذين يواصلون العمل في المتجر أو الورشة أكثر من 15 ساعة من اليوم والليلة. وما ضاعف وجود هذه المحال في معظم المدن الرئيسة، السماح لأي مبنى يطل على شارع عرضه ثلاثين متراً فما فوق أن يتحول إلى محل تجاري.
ولنا أن نتخيل وجود الملايين من العمالة الأجنبية غير الضرورية بين ظهرانينا وتأثيرها ولو بطريق غير مباشر في عاداتنا الاجتماعية واستهلاكها الكبير للمؤن والموارد المخفضة واحتلالها أماكن واسعة من الشوارع والسكن واستخدامها المرافق العامة المثقلة. ولا بيننا من يدرك أن أعداد هذه الفئة من العمالة غير المنظمة في ازدياد مستمر، ما لم نضع نظاماً صارما يقيد استقدامها ونضع حدا لفوضى وجودها. ومعنى هذا أننا نفتح المجال واسعاً وبرضى منا لكل من يريد أن ينتقل إلى بلادنا وينهب أموالنا في وضح النهار. والمبلغ الزهيد الذي يتقاضاه المواطن مقابل تحايله ومخالفته أنظمة الاستقدام لا يساوي إلا جزءا يسيرا من الذي تحصل عليه العمالة الأجنبية. وليس من المستبعد أن تقودنا هذه الممارسة من سياسة فتح الباب إلى أن نصبح أقلية في بلادنا، كما هي الحال في بعض بلدان الخليج الأخرى، وهو ما لا نتمنى أن يحدث. والحل ليس صعباً ولا مستحيلاً إذا وجدت الإرادة، فكل ما نحتاج إليه هو عدم تجديد رخص هذه المحال واستبدالها بمؤسسات متخصصة يسهم في رأسمالها المواطنون وتكون لها نظم تحفظ حقوق العاملين فيها وتكون حصراً على المواطنين. نحن مقبلون خلال عمر جيل واحد على مراحل انتقالية من تضخم في الدخل إلى اعتدال ثم إلى بداية شح في المعيشة مع انخفاض الإنتاج النفطي المتوقع بعد عقود قليلة، وهذه في حاجة إلى وضع رؤية ثاقبة بعيدة المدى، قبل أن نصل إلى نقطة اللا عودة.
ثم ما هذه الغفلة والتبلد الذهني والانشغال بأمور غير جوهرية عن ظواهر ومظاهر تنمو في مجتمعنا وتهدد كياننا وخصوصيتنا ونحن نتفرج وكأن الأمر لا يعنينا؟! ماذا لو - لا قدر الله - هاجم بلادنا جيش من الجيوش من أجل أن يسلبنا حرياتنا ويستولي على مقدراتنا؟ هل يا تُرى سنتركه حتى يتمكن منا؟ لا نعتقد ذلك، لكننا لا نرى في هذه الظاهرة الخطيرة المتمثلة في تكدس العمالة الوافدة في قلب المجتمع واستيلائها على مقدراتنا، برضى منا، ما يستحق دراسة الموضوع ومحاولة تقليص وجودها، لا سيما وهي تقوم بأعمال كان الأولى أن يتولى القيام بها المواطنون العاطلون عن العمل. ونحن نعلم أن هذه القضية متشعبة الجوانب، فيدخل فيها فوضى منح التأشيرات وضعف الرقابة وتجار العقار وعشوائية التخطيط العمراني وانعدام الذوق الفطري الذي لا يقبل التشوهات والمناظر المؤذية.
تصوروا لو رجعنا إلى رشدنا وأعدنا تخطيط أولوياتنا واستطعنا أن نستغني عن جميع محال التجزئة الصغيرة وعوضنا عنها بمجمعات تجارية حضارية بعيداً عن وسط المدن، وهو مجرد حلم، فستصبح شوارعنا نظيفة ومنظمة وخالية من الازدحام القاتل والضجة والإزعاج. اختاروا أي مدينة في المملكة واجعلوا منها نموذجاً للمدن الأخرى، ونضمن أن الكل سيقتدي بها.