الحكومة ضد الحكومة

قصة كاشيرات مكة قصة صغيرة جرت فصولها في زحمة أحداث كبيرة. في أيار (مايو) الماضي وظف مركز تجاري في مكة المكرمة ست فتيات بالتعاون مع وزارة العمل، بعد نحو شهر استدعي مدير المركز إلى مكتب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب منه تسريح الفتيات. طالبهم بخطاب رسمي كي يقدمه لمكتب العمل حين يتعرض للشكوى، فرفض موظف الهيئة. لم يتوصلوا إلى اتفاق، فلم يتوسل مكتب الهيئة بالقانون كما يفترض من دائرة حكومية، بل هدده - طبقا لتصريحات مدير المركز - بتشويه سمعة الشركة والتشهير بها في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، وبدعوة الناس لمقاطعة المراكز التجارية التابعة لها. (''الحياة'' 16 يونيو 2012).
تستوقفني في هذه القصة ثلاث نقاط:
1 - الطرف الوحيد المتضرر هنا هو الشريحة الأضعف في المجتمع: فتيات فقيرات سعين مثل كل إنسان شريف لكسب لقمة العيش بالعمل ولو براتب ضئيل، بينما الطرف المتسبب في الضرر دائرة حكومية هدفها المعلن حماية الناس، ولا سيما ضعفاءهم.
2 - الفتيات تقدمن للعمل في إطار القانون، والشركة وظفتهن في إطار القانون، وبدعم وتشجيع وزارة العمل التي تسعى لمكافحة البطالة المتفاقمة بين النساء (فوق 80 في المائة حسب التقديرات المنشورة). نحن إذن إزاء دائرة حكومية تصارع دائرة حكومية أخرى وتسعى لإفشال خططها.
3 - هيئة الأمر بالمعروف لم تتبع الطرق القانونية في التعامل مع المواطن، بل توسلت بأسلوب الجماعات السياسية الأهلية، أي التهديد بالتشهير والمقاطعة، ثم الضغط الشخصي المباشر على العاملات وأصحاب المركز التجاري بالمضايقة والتهديد وإعاقة العمل. في الماضي كانت الهيئة تتبرأ من هذا النوع من التصرفات، وتنسبه إلى ''محتسبين متطوعين''، لكن الواضح الآن أن موظفين رسميين في الهيئة هم الذين يمارسونه. هذا يثير سؤالا جديا حول وجود لوائح سلوك وظيفي في الهيئة، ومدى التزام موظفيها بأنظمة العمل السارية.
الغائب الأكبر في هذه القضية هو مبدأ سيادة القانون، سيادة القانون تعني أن أي نظام أو لائحة تصدر من جهة رسمية ذات صفة، وتعلن للناس، فإنها تصبح ملزمة للجميع، الراضين بها والرافضين لها. لو قبلنا بإمكانية تطبيق القانون بصورة تفاضلية، فسيطبق الأقوياء ما يناسبهم من الأنظمة ويتركون ما لا يناسبهم. وفي وقت لاحق سيتحول هذا إلى سلوك عام يمارسه القوي والضعيف على حد سواء، وفي هذه النقطة تضيع هيبة النظام العام وقانون البلد.
هل نريد الوصول إلى هذه النقطة؟
إذا كنا نؤمن بسيادة القانون وأنه فوق الجميع، فعلى الجهات الرسمية إيقاف موظفي فرع هيئة مكة فورا وإعلان ذلك. وعليها إعادة الفتيات الست إلى عملهن بشكل علني، كي تصل الرسالة للجميع بأن القانون يعلن كي يطبق، وأنه قانون فعلي يطبق على الجميع، وليس مجرد سالفة قيلت في مجلس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي