جناية التصنيف
لم يكن التصنيف للأشخاص (ليبرالي، علماني، حداثي، صحوي، أصولي ..) ثقافة اجتماعية تجري على ألسنة عامة الناس ويتداولونه في المجالس والدواوين، فقد كان يتم بالأساس في الحيز الثقافي فقط أما التصنيف السائد فكان عفوياً بريئاً رحيماً لا يتجاوز: "متمدن" أو سواها مثل: عادي، حضري وبدوي وتقال على سبيل وصف السلوك ونمط الحياة غير أن الفضاء الاجتماعي، منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي اجتاحته موجة من التصنيفات المحتقنة أصبحت بضاعة عامة توزع على الأشخاص اعتباطا دون وعي للمدلول أو المعنى سوى المذمة والسلبية فيها.
كان الخطاب الثقافي العربي، منذ الخمسينيات في الكتب والمقالات والبحوث والدراسات قد أخذ يتشبع بالتصنيفات من منطلقات سياسية عقائدية (أيديولوجية) حيناً ومن منطلقات فقهية، أدبية، فلسفية وفنية حيناً آخر (تراثي، تقليدي، حداثي، يساري يميني، برجوازي، تقدمي، رجعي) ونهض التصنيف على أسس منهجية موضوعية في الغالب وبناء على الإنتاج الفكري ذاته والموقف من قضايا التطور الاجتماعي.. فما الذي أجج فتيل التصنيف على المستوى الشعبي العام؟!
في الستينيات كانت الحرب الباردة قد بلغت أوجها بين المعسكرين الشرقي والغربي وكان من نتائجها عربياً احتدام التوتر والصدام بين القوميين (ناصريين، بعثيين) أو الشيوعيين والتيار الإسلامي ممثلاً بشكل خاص في حركة الإخوان المسلمين في مصر وسورية والعراق والسودان، وخلال تلك الحقبة شكلت المملكة لفئات من المحازبين للإخوان أو المتأثرين بخطابهم الثقافي ملاذاً لهم من هذا التأزم، بيد أن بعضاً ممَّن عمل في جامعاتنا تحمس لـ "أسلمة العلوم".. ومع أن هذه "الأسلمة" ظلت رطانة أكاديمية في البداية إلا أنها ما لبثت أن شقت طريقها لتصبح مادة إعلامية أدى السجال فيها إلى الانزلاق نحو اتهام كل ما لا يدخل في "الأسلمة" بالتغريب ونعوت أخرى وكانت هذه بداية التصنيف.
بعدئذ .. شكل صدور كتاب المرحوم أحمد فرح عقيلان "جناية الشعر الحر" في أواخر 1979 علامة مفصلية في فتح باب التصنيف على مدى جديد، فقد أشار عقيلان للخلفيات الفكرية للشعراء الرواد لقصيدة الشعر الحر باعتبار هذه الخلفيات مصدر الجناية في "تخريب" عمود الشعر التقليدي ومواضيعه وتم استغلال تلك الإشارات للطعن بالحداثة في الصحافة، وكان الدكتور عوض القرني أبرز من اتكأ عليها بجانب اتكائه على نصوص شعراء الحداثة وكتابها ونقادها من السعوديين لتكون مادة كتابة (الحداثة في ميزان الإسلام) الذي أجج بشكل مثير التصنيف (مع الحداثة أو ضدها) ثم اتسع نطاق التصنيف مع بداية التسعينيات (غزو الكويت) ليدخل مع الحداثي تصنيفات: (ليبرالي، علماني..، أصولي، صحوي، سلفي ...) وتداعت هذه التصنيفات مشحونة بحمولة اتهامات وتشكيك موتورة متبادلة بين الحداثيين والصحويين يرسل كل منهما الآخر للجحيم متحولة إلى لغط اجتماعي من نوع المضحك المبكي!!
إن الانتقالة التي عبرها التصنيف من الحيز الثقافي إلى الفضاء الاجتماعي حولته إلى مطية للكيدية والنكاية وصار ثقافة العداء للثقافة وانحدر إلى المنابذة بل أيقظ حتى النعرات القبلية والمناطقية. وبات أشبه بالتنفيس عن عقد نفسية وتعبير عن العجز عن التواصل، ضمرت فيه الموضوعية لمصلحة السطحية وتضاءلت المفاهيم إلى مجرد الأسماء والعناوين مع الغطس في مستنقع الأقاويل المختلقة وتسقط الزلات والعثرات وترويج الشائعات المغرضة وتضخيمها وتسويقها للرأي العام على أنها وصمات عار لمجرد الاختلاف.
وكان جلياً أن الصحويين هم من أفرط في المصادرة والاتهام مستغلين النمطية غير المسيسة للمجتمع وخلو ثقافته تقليديا من هذه المفاهيم الجديدة فتم إلباس من يختلف مع الصحوة بواحد من تلك التصنيفات واعتمدت الصحوة هذا التلبيس استراتيجية كرست بها حاجزا من سوء الفهم على مستوى العامة شوش ذهنيتها بالشبهة والاشتباه، وكان من الطبيعي أن يحتد الآخرون لما قيل عنهم جزافاً فسعوا إلى فضح مناورات الصحويين وإسقاط الأقنعة عنهم وبدا واضحاً أن الصحويين كانوا في كتاباتهم وخطاباتهم يصدرون عن عدم اطلاع أو معرفة بثقافة العالم، خصوصا الغرب، بناء على موقف مسبق منهم ضدها، لذلك جاءت آراؤهم هجائية تشنيعية، بينما كان الفريق الآخر على دراية بالثقافة الإسلامية بحكم الانتماء والنشأة والتعليم وقد أحنق ذلك أهل الصحوة ثم زاد دخول الفضائيات والإنترنت على المشهد من تأجيج هذا السجال التشاجري وإشاعة التصنيفات وتوسيع نطاق تداولها بين عامة الناس، في حالة استعلاء من أهل الصحوة وتدخل في الخصوصيات والوصاية على سلوك الآخرين وتلويثهم بنعوت مخلة لتنفير عامة الناس في مفارقة صارخة انقلب فيها التصنيف الرحيم بـ "المتمدن وسواه" إلى المغرض والخبيث. خلاصة القول: ولد التصنيف وافداً وعلق به أهل الدار.. إنما في التباس ما زال قائما!!