طريق الشوك
تحديث الخطاب الديني لا يعني تحديث شكله أو وسيلة عرضه، أي إعادة إنتاج الخطاب القديم في قوالب جديدة. هذا ليس تجديدا، بل مهمة ''علاقات عامة''. هذا عمل يطيل حياة الثقافة العتيقة، فيجعلها قابلة للعرض سنوات إضافية، لكن من دون أن تكون مفيدة للناس أو مؤثرة في حياتهم، تماما مثل المخطوطات والأواني الأثرية التي يرممها أصحاب المتاحف بين حين وآخر.
تحديث الخطاب الديني يستدعي مراجعة عميقة، تتضمن بالتأكيد استبعاد تلك المفاهيم التي لم تعد معقولة أو متناسبة مع تطور الفكر الإنساني وتجربة الإنسان المعاصر.
إشكالية التخلف تكمن في إضفاء القداسة على الموروث، ورفعه فوق الجديد والمبتكر. ثم اعتبار الماضي مرجعا للحاضر ومعيارا للحكم بسلامته أو عواره. هذا يقود بطبيعة الحال إلى اغتراب عن الحاضر وألفة للماضي، وإنكار للبشر والأشياء التي يعايشها الإنسان، ومبالغة في تقدير قيمة ما مات وانتهى زمنه.
تجديد الفكر الديني لا يتحقق بتغيير وسائل توصيله وعرضه. يستهدف التجديد - أولا وقبل كل شيء - الانعتاق من قيود الحقب التاريخية التي توقف عندها الفكر الإسلامي، وتقديم خطاب عصري يجيب عن الأسئلة والتحديات التي تواجه المجتمع المسلم في عصره الحاضر. خطاب منبعث من حاجات العصر متفاعل مع هموم إنسانه.
تجاوز قيود التراث القديم مهمة عسيرة دون شك، لكنها ليست الوحيدة التي تجابه الإصلاحيين. ثمة معضلات أخرى تزيد في عسر الطريق، من بينها قهر العامة وقيود العرف والتقاليد السائدة. لو كان الأمر سهلا، لأخذ به جميع الناس. اختيار هذا الطريق العسير، والصبر على أذاه هو الذي يميز الفاتحين عن أفواج الناس.
لا يحتفظ التاريخ بأسماء الملايين الذين شاركوا في التحولات أو استفادوا منها. بل يذكر القلة التي أبدعت تلك التحولات أو تقدمت الناس إليها. عاصر ابن خلدون مئات من أهل العلم، لكننا نذكر ابن خلدون دون غيره، لأنه تصدى لحقل من حقول العلم متمايز عما انشغل به أنداده. وعاصر آينشتاين مئات من الفيزيائيين والفلاسفة. ترى كم اسما من أسماء أولئك الناس يذكر اليوم حين نتحدث عن علم الفيزياء والفلسفة؟ أرسطو وابن خلدون وابن رشد وماكس فيبر وآينشتاين وعلي شريعتي وأمثالهم، أصبحوا علامات مضيئة في تاريخ البشرية، لأنهم سلكوا درب الرواد، فخرجوا على السائد والمعتاد، وتحملوا في درب الريادة أشكالا من العسر والعنت من جانب حراس القبور وحراس المتاحف.
التغيير والتجديد هو طريق الغرباء، الذي يسلكه قلة من الناس يحتملون الدروب الصعبة. أكثر الناس تجدهم في الطرق المألوفة المأهولة المعبدة التي لا غريب فيها ولا مختلف. رواد الطريق الأول هم صناع مستقبل العالم، أما الطريق الآخر فرواده مجرد مستهلكين لما يجدونه في المخازن من بضاعة السابقين.