هل «العمل عن بعد» هو النموذج الأفضل لنا؟
تطوير نماذج وآليات سوق العمل من أجل السعودة وتوطين الأعمال ودعم المبادرات الجديدة في حاجة إلى الاستفادة من التجارب العالمية الناجحة. ونموذج ''العمل عن بعد'' الذي يشهد نموا متزايدا في الغرب يمثل في رأيي النموذج الأفضل لنا. فديموغرافيا يشجع الكوادر على اللقاء في مناطقها المختلفة والعمل عن بعد دون الحاجة إلى الانتقال للمدن الرئيسة وتبعات ذلك اجتماعيا وآثاره السلبية من هجرة للمدن الصغيرة وتكدس في المدن الكبيرة التي تعاني الزحام في كل شيء، كما يشجع على الاستفادة من الكوادر الموجودة في أي مدينة. وبالنسبة للمرأة فهو يغنيها عن مشاكل التنقل وصعوبته وتكاليفه وإشكالات الاختلاط في بيئة العمل وتكاليف الملابس! والحاجة إلى عاملة منزلية لرعاية الصغار. واقتصاديا يساهم في رفع نسبة السعودة وزيادة الدخل المادي للأسر مع تقليل زحام الطرقات ومساحات المكاتب واستهلاك الكهرباء وغير ذلك من فوائد إضافية ليس هنا مجال تفصيلها.
وتشير دراسة غربية إلى النمو الكبير في اعتماد المنظمات (أقصد بها الشركات والمؤسسات والجمعيات والإدارات الحكومية) على نموذج ''العمل عن بعد'' خلال العقد الماضي وذلك لتحقيق فوائد عديدة مثل تقليص تكاليف المكاتب وتنقلات الموظفين، توفير وقت الموظف الذي يمضيه في وسائل النقل مما يسبب الإجهاد، استقطاب موظفين في مناطق أخرى، زيادة سرعة وكفاءة فرق العمل وغيرها من المزايا. ففي عام 2003 ازداد عدد المديرين الذين يديرون فرق عمل يشارك أعضاؤها من مواقعهم المختلفة ونادرا ما يعملون وجها لوجه. وفي 2006 بلغت نسبة الأعضاء العاملين عن بعد 48 في المائة من فرق العمل. كما وجدت شركة IBM العالمية في عام 2008 أن إنتاجية العاملين عن بعد تفوق زملاءهم في المكاتب بنسبة 20 في المائة. وفي عام 2010 سجلت أوروبا رقما جديدا، حيث أمضى 16 في المائة من الموظفين ما يزيد على 80 في المائة من وقتهم في العمل عن بعد فيما بلغت نسبة فرق العمل التي تعمل عن بعد في أكبر 500 شركة أمريكية ما نسبته 40 في المائة مع توقع بأن تبلغ هذه النسبة 62 في المائة عالميا بنهاية هذا العقد.
كان رئيسي في العمل في الشركة الاستشارية التي عملت فيها في مانهاتن يعمل من المنزل حين يكون لديه عمال صيانة أو زيارة لعميل في موقع آخر ليتلافى إضاعة وقته في التنقلات. أما مستشارة القوى العاملة فتعمل من منزلها طوال الأسبوع ولا تأتي للمكتب إلا نادراً، وكان أغرب ما قالته لي إنها تعقد اجتماعا مرئيا مع مسؤولي الشركات عبر شاشة تلفزيون وكاميرا في غرفة ملابسها! ومستشارة أخرى تعمل يومان كل أسبوع من المنزل وما زلت أذكر حين عقدنا اجتماعا هاتفيا مع إحدى الشركات أن كلبها كان ينبح بصوت مرتفع فاعتذرت بلطف وأسكتته وأكملت مداخلتها دون أن يثير ذلك استياء أحد. كما كانت إحدى الموظفات تعمل كل جمعة من منزلها لتهتم بطفلها الرضيع!
ويذكر زميل عمل مع شركة عالمية في بنسلفانيا في أمريكا أن نائب الرئيس للتسويق كان يقود العمليات من مقر إقامته في ميامي! ويضيف زميل آخر أن هناك موظفين عرب لم يتمكنوا من الحصول على تأشيرة الدخول لأمريكا يعملون في مايكروسوفت من مقر إقامتهم في الأردن وكندا! ويؤكد مدير لإحدى شركات تقنية المعلومات في المملكة أن شركته لا تشجع موظفي المبيعات على الحضور للمكتب إلا للاجتماع ولا توجد لهم مكاتب مخصصة وإنما مكاتب مشتركة لمن يتواجد منهم مع صرف ما يساعدهم على شراء مكاتب منزلية ودفع فاتورة الهاتف!
التجربة محليا غير صعبة وليست مغامرة فقد اطلعت على تقرير عن تجربة ناجحة جدا لتأسيس مكتب استشاري نسائي في الرياض عن طريق العمل عن بعد لتوفير تكاليف الإيجارات والتواصل باستخدام برنامج سكايب والإيميلات والأرشفة الإلكترونية عن طريق جوجل قروب. تمكن المكتب خلال العام الأول من توقيع عقود وتقديم خدمة المكتب الافتراضي في ثلاث جهات وتوسعت أعمالهم بالتعاقد مع العديد من الكوادر في أنحاء المملكة. وكانت أبرز الفوائد استغناء الموظفات عن المواصلات والتنقل وإمكانية العمل في أي مكان وأي وقت مهما كانت الالتزامات العائلية والظروف الاجتماعية. ومن المشاريع التي نفذها المكتب دون لقاء شخصي ومباشر بالموظفين تدريب فريق بحث ميداني وإعداد دراسات استكشافية وبحوث ميدانية وتعيين فريق سكرتارية بدوام كلي متفرغ من السيدات. وشمل ذلك تقديم الاستشارات وخطط العمل وعقد الاجتماعات الإدارية وتنفيذ خطط التسويق الإلكتروني والحملات الإعلامية.
نموذج ''العمل عن بعد'' يحتاج إلى تنظيم ودعم لاعتماده على توافر بنية اتصالات قوية وإنترنت سريعة وعالية الكفاءة ووعي عال لدى الموظفين مع وضوح في أساليب العمل ونظام يجعل ضمان الوظيفة مرتبطا بالإنتاجية. وهذا النموذج يكاد يكون مثاليا بالنسبة لنا لفوائده العديدة والتي تكفي لأن تضعه وزارة العمل ضمن أولوياتها وأن تنشئ مركزا يهتم به ويدعم التوسع فيه.