قصر البنت والصانع .. حكاية الحضارة النبطية في «مدائن صالح»
في الطريق إلى مدائن صالح "الحِجر" تستعيد من ذاكرتك أناشيد الأماكن التاريخية وملامح صمودها في وجه تصاريف الزمن، وتنجذب إلى ـتاريخ ثريّ حافل بالعراقة المتميزة وبروعة شواهد الأمس البعيد ومعالم العصور الغابرة.
في مدائن صالح تتوقف الأعين أمام حيز مكاني تضاريسي يأبى أن ينكشف للزائر مذ أول وهلة لينجلي رويدا، رويدا،على مهل وفي استحياء شديد كاشفاً في كل مرة من تجلياته عن معالم باهرة ومفاتن جديدة، تشعرك بالفعل أنك في "مدينة" ليست ككلّ المدن، وأمام معلم استوفى من الأسرار ما لا تكفي معه أيام ولا شهور لسبر كنهه أو الغوص في أعماقه واستجلاء أسراره.
مجموعـة "قصر البنت" تعتبر من أجمل المعالم النبطية في مدائن صالح، فهي حافلة بالعناصر الجمالية والفنية التي تشهد لأولئك القوم ببلوغ درجة متقدمة في فنون النحت والأسس المعمارية الراقية. وتقع غرب ما يعرف بـ"الديوان".
وهناك مجموعة المقابر من الخارج، وتكتنز هذه المجموعة 31 مقبرة نبطية تتوزع على جبلين، أحدهما كبير تحتل المقابر الواجهات الغربية والجنوبية والشرقية منه، وفي الجهة الشمالية الغربية منه يقع الجبل الصغير الذي نحتت في واجهته الشرقية مقبرتان متوازيتان.
في الجهة الغربية من هذه المجموعة توجد مقبرة غير مكتملة، حيث بدأ النحات بنحت الـجزء الـعلوي وهي الشرفات ولم يكمل بقية الواجهة، ولو أكملت هذه الواجهة لكانت أضخم واجهة في الحجر بمدائن صالح؛ وذلك لانحدارها المهيب من علو يقترب من سفح الجبل، حيث لا يفصل الشرفة عن قمته سوى أمتار قليلة. كما تنتظم في هذه الجهة ثلاث واجهات لمقابر متساوية ومتشابهة في سماتها الفنية لتتناغم في مشهد أخّاذ وبديع.
وتشكّل هذه الواجهة وثيقة حية للدارسين وللبحث الأركيولوجي على نحو خاص؛ نظير ما تزخر به من نقوش نحتت على مداخل وواجهات المقابر تشير إلى أن أغلب المقابر في هذه المنطقة تميزت بوجود كتابة أعلى المدخل تحمل اسم صاحب المقبرة، ومن يحق لهم الدفن فيها وتاريخ نحتها والنحات الذي نحتها، وتشي هذه النقوش بكثير من الجوانب التي تعكس حياة الأنباط وممارساتهم وملوكهم، وما إلى ذلك.
على الرغم من أن هذه المجموعة ليست الأكثر من حيث عدد المقابر، إلا أنها تختزل كثيرا من معالم الجمال النبطي الذي وصل إلى درجات متقدمة في فنون النحت، فإلى جانب الشرفة بدرجاتها الخمس والعارض النبطي يمكن مشاهدة التأنق في تصميم الواجهة المثلثة التي نحت على زواياها آنيتان وفي المنتصف طائر النسر، إضافة إلى ذلك يمكن أن تلمح نحتا دائريا لوجه بشري يجاوره ثعبانان من جهتيـه اليمنى واليسرى، وكذلك نحتا لأسدين متحاذيين ومتقابلين تفصلهما عن بعضهما زهرة واحدة إلى جانب الأشكال الزخرفيـة الأخرى كالتاج النبطي.
كما توجد مقابر الداخل، وهي متفاوتة في حـيّـزها، وتأخذ أبعادا مختلفة أغلبها مربعة الشكل، تحتوي على كوات وأرفف حجرية على طبقات عدة، وتتوزع بعض المدافن على أرضيـات المقابر، ويلاحظ أن بعض المدافن المحفورة في الصخر عميقة بحيث يجعلنا نرجح أنها حفرت لتتسع لأكثر من ميت، كما أن القبور تختلف في أحجامها أيضا.
أما "قصر النابط" الشهير فيقع في الجنوب من موقع مدائن صالح، إلى الشمال من منطقة الخريمات، وتسمية المجموعة محلية لا تخضع لأساس علمي، وتتكون من كتلتين صخريتين، أحدهما شرقية تحوي ست مقابر نبطية تنزع إلى البساطة في عملية النحت، أما الكتلة الصخرية الغربية فتتفرد بمقبرة "قصر الصانع" فقط، والتي يعود تاريخها، بحسب النقش الموجود عليها، إلى شهر نيسان (أبريل) من العام الميلادي الثامن، والواجهة مترعة بعناصر الزخرفة والتصميـم الجمالية، وتتوزع المدافن من الداخل على أرضية المقبرة وجوانبها.