فقر البحوث الاجتماعية
مما يدعو إلى الأسف أن التحولات الاجتماعية، ومن بينها بروز أو تراجع الهويات الفرعية والتبدلات الخاصة بتوزيع القوة في المجتمع وأمثال هذه القضايا المهمة، لم تحظ بما تستحقه من النقاش العلمي في بلدنا. يهتم علم الاجتماع بوصف وتفسير الحراك الاجتماعي، ومن هذه الزاوية، فهو يوفر أساسا ضروريا للتخطيط الاقتصادي والإدارة العامة والتربية والعمران الحضري، بل كل استراتيجية وخطة عمل ذات علاقة بالمجتمع ومستقبله.
لا يهتم علم الاجتماع بتحديد قيم أخلاقية أو دينية للموضوعات التي يدرسها. فهو في المقام الأول علم وصفي، تحليلي وتفسيري. ومن هنا فإنني أشعر – مع الأسف - حين أرى كتابات تحمل عناوين مثل "جناية علم الاجتماع على الإسلام". مثل هذه الكتابات تنطلق من ضيق بالواقع ورغبة في وضع حدود أيديولوجية لأي وصف أو تفسير. ونعلم أن مثل هذا التحديد سينتهي إلى شروح أيديولوجية وليس فهما للواقع كما هو. ولعل من أعظم أخطاء الفلسفة الماركسية إصرارها على حشر حركة التاريخ في قالب تفسيري شديد الالتصاق بمرادات الأيديولوجيا، هذا الخطأ هو أحد أسباب فشل الماركسية في الحفاظ على مكانتها بين المدارس الفلسلفية، رغم إسهاماتها الجليلة في تطور العلم والفلسلفة.
تعرض المجتمع السعودي لتحولات عميقة في حقبة ما بعد النفط، ولا سيما بعد انطلاق خطط التنمية الخمسية في 1971. أثرت هذه التحولات في التركيب الاجتماعي وتوازنات القوى الداخلية، وغيرت رؤية الأفراد لأنفسهم وللعالم المحيط بهم، كما غيرت بشكل شبه نهائي أنماط التدين والمعيشة والعمل. وهي تحولات ما زالت مستمرة، ولم تصل إلى غاياتها.
يتسم ظرف التحول بسيولة مفرطة في الآراء والقيم والأدوار والمواقع والعلاقات. بعبارة أخرى فإننا نتحدث عن واقع يتغير بشكل شبه يومي، الأمر الذي يجعل الخطط والاستراتيجيات المبنية على تصور محدد عن الواقع، في لحظة معينة، ضحية لتلك التحولات السريعة. ولا أستبعد أن إخفاق العديد من السياسات الرسمية أو توقفها كان نتيجة لمثل هذا التباين بين رؤية الواقع في مرحلة وتحولاته في مراحل لاحقة.
حين استعرض أسماء الدراسات العلمية التي اهتمت بالمجتمع السعودي، وهي على أي حال ليست كثيرة، أجد أن أغلبها كتبها باحثون من خارج المملكة، كما أن جميع البحوث التي كتبها مواطنون، نشرت – سوى عدد قليل – خارج البلاد. بعبارة أخرى فإن بلدنا تعاني فقرا شديدا في الدراسات الاجتماعية، في ظرف يحتاج المخططون وصناع السياسة – أشد الحاجة – إلى هذا النوع من البحوث التي تضيء طريقهم وتساعدهم على استيعاب إشكالات وتحديات المجال الاجتماعي الذي يعملون فيه ولأجله.
يهمني في ختام هذه المقالة توجيه الدعوة إلى الجامعات والهيئات الرسمية لتشجيع البحوث الاجتماعية ورفع قيود الرقابة التي تمنع نشر أعمال الباحثين السعوديين. نحن في حاجة إلى معرفة الواقع الذي نعيش كي نشق طريقنا إلى المستقبل على أرضية متينة وكي نتلافى تكرار التجارب وتكرار الإخفاقات.