تَديّن القرية وتَديّن المدينة
صدمتني تفسيرات المفكر الجزائري نور الدين طوالبي حين قرأت كتابه "الدين والطقوس والتغيرات". قدم طوالبي مقاربة سوسيولوجية عميقة، مستهدفا تفسير الفوارق بين التدين القروي والتدين المدني، ودرس بشكل مركز أشكال السلوك الديني في القرية والمدينة، سعيا وراء تحديد معنى ووظيفة كل منها، وفهم انعكاسها على حياة المهاجرين من الريف إلى المدن الكبرى.
معظم الذين جربوا الحياة في الجانبين، في القرية والمدينة، يدركون تماما الفرق بين نمط التدين هنا وهناك. تتسم الثقافة القروية بميل شديد إلى تبسيط وتجسيد الأفكار، وتهتم بصورتها العامة وحدودها الخارجية دون تفاصيلها. وللسبب نفسه فإن حياتها الدينية تدور حول التطبيقات الموروثة والمألوفة، وتعرض عن الجدل حول الأسباب والتعليلات. ساكن القرية أميل للتسليم بأقداره أو بنسق حياة افترضه قدرا لا ضرورة للفرار منه. بخلاف ساكن المدينة الذي يسعى ـــ غالبا ــــ إلى السيطرة على قدره، ويدير حياته على وقع المقارنة بين حاله وحال من سبقوه في دروب الحياة.
نمط التدين في المدينة هو انعكاس لنسق حياتها. يسيطر على ساكن المدينة ما يمكن وصفه بهوس التحول. فحياته اليومية تدور ــــ في جانب كبير منها ــــ حول تغيير موقعه في سلم المعيشة والتراتب الاجتماعي، انطلاقا من شعور شبه ثابت بعدم الرضى عن ظرفه الراهن. بعبارة أخرى فهو يمارس نقدا يوميا لجوانب حياته إذ يقارنها بما يراه أو يظنه أعلى.
هذه حالة ثقافية تتمظهر عند معظم الناس في سياق تقديرهم لظرفهم المعيشي. لكنها تؤثر أيضا في رؤيتهم لأنفسهم مقارنة بأندادهم، وتؤثر في قناعتهم بالقيم والأخلاقيات والمعايير التي يتعاملون بها والإطارات التي ينتمون إليها. لا يتعلق الأمر فقط بمساحة الحرية التي يتمتع بها ساكن المدينة، بل بطبيعة الحياة المدنية التي تفتقر إلى الطمأنينة والسكون، بقدر ما تتسع فيها مساحات التغيير وبالتالي الاختلاف والجدل.
قابلية الفرد للتحول رهن بعدد الأسئلة التي يواجهها يوميا، وعدد الخيارات والاحتمالات التي تطرح عليه كرد على تلك الأسئلة. ومن هذه الزاوية، فإن اتساع مساحة التواصل مع الآخرين، وتنوع موضوعات التواصل، سيما عبر الوسائل التفاعلية كالإنترنت، تؤدي بالضرورة إلى تأجيج الجدل الداخلي في نفسه. الأمر الذي يضعه أمام واحد من خيارين: أما التغيير أو الانكفاء على الذات.
مجتمع المدينة ومجتمع القرية يمثل كل منهما موضوعا مختلفا عن الآخر. وهو لهذا السبب يتطلب خطابا دينيا ذا لغة مختلفة، بأولويات مختلفة، وطبيعة مختلفة. طرح التدين المدني على القرية سيوقظ التقاليد القديمة التي يحتمي بها النظام الاجتماعي القروي. كما أن طرح التدين القروي على سكان المدينة سيحول الدين من فلسفة للحياة إلى ممارسة طقوسية تمجد الشكل وتغفل المضمون.