نتلوّث بـ 273 مليار ريال وأكثر سنوياً
هل خطر في بالِ أيِّ منّا -خاصةً من يقطنون المدن- أنْ سأل نفسه وهو محشورٌ في سيارته كل صباح، وسط زحمة الشوارع المؤدية إلى مواقع الأعمال والدراسة وطلب الرزق؛ هل لهذا الزحام العظيم، وارتفاع عودام وسائل النقل المختلفة لتتكوّن تلك الطبقات السوداء فوق رؤوسنا ملوثةً الهواء الذي نتنفّسه، تكلفة؟! وكما سيثبت لنا بعد قليل؛ كم تبلغ تلك التكلفة؟ وما نوعها؟ وما آثارها؟ وهل وصلنا أو تجاوزنا حدود الخطر؟ وما الحلول لتدارك ما يمكن تداركه؟ وماذا بأيدينا فعْله لاحتواء تلك الآثار المدمّرة مادياً وصحياً وبيئياً، سواءً على مستوى معالجتها؟ أو تحمّل وتعويض خسائرها؟
هل الأمر خطير؟! نعم هو خطير كما سيتجلّى لنا الآن. لقد اكتظّتْ المدن الرئيسة في بلادنا خلال العقد الأخير بالسكان بمعدلات نموٍ كانتْ من أعلى المعدلات على مستوى العالم، وصلتْ في المتوسط إلى 8 في المائة. دفعها للوصول إلى هذا المعدّل المرتفع استمرار هجرة السكان المحليين - بحثاً عن طلب لقمة العيش أو بهدف التعليم - من المناطق النائية إلى المدن بوتيرة لافتة، وزاد من الارتفاع الزيادة المفرطة في استقدام العمالة الوافدة - بلغ عدد التأشيرات الموافق عليها من وزارة العمل خلال الفترة 2003-2012م نحو 14.91 مليون تأشيرة - وبطبيعة الحال فقد تركّزت تلك الزيادات السكانية من غير السعوديين في المدن الكبرى بحكم تركّز الشركات وفرص العمل فيها، مقارنةً بما سواها من بقية المناطق، يأتي أخيراً كأحد العوامل الطبيعية لزيادة السكان من المواليد.
نتج عن كل تلك التطورات الديموغرافية المتسارعة زيادةً مفرطة في استهلاك الطاقة، والكهرباء، والمياه، ووسائل النقل، والغذاء. غير أنّه قابل تلك الزيادات المفرطة تشوهاتٍ فاقمتْ من حالة الخطر في حياتنا بصورةٍ تخطّتْ معها حدود المقبول، ولا أبالغ بالقول إنّها أدخلتنا نفقاً مظلماً ومرعباً من مختلف النواحي، في مقدمتها الجوانب الاقتصادية والصحية والاجتماعية والبيئية وحتى الأمنية! وما أصبح معتاداً مشاهدته خلال بعض مواسم العام في بلادنا من انقطاع الكهرباء أو المياه، ومن زيادةٍ لافتة في عدد الحوادث المرورية أو حرائق المنازل والمراكز التجارية أو بعض الشركات، ليس إلا جانباً يسيراً من كامل الصورة المخيفة التي تحيط بمقدرات حياتنا اليومية!
يكفي القول إنَّ الزيادة المفرطة في الاعتماد على وسائل النقل المختلفة، وما ترتّب عليها من زحاماتٍ تمتدُّ في أوقات الذروة لعشرات الكيلوات، وما خلّفته وتخلّفه يومياً من الطبقات الكثيفة من العوادم فوق سماء المدن وشوارعها، دعْ عنك القول بتردّي وتهالك حالة الطرق فتلك معضلة تنموية لها شأنها الخاص.
إنَّ ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو بين تلك الملايين من وسائل النقل العابرة صباح مساء لشوارع مدننا؛ مئات الآلاف منها لم يعد صالحاً على الإطلاق للاستخدام، بسبب تقادمها بأكثر من 20 عاما ما حوّلها من مجرد وسيلة نقل إلى (نفاثةٍ) لأسوأ العوادم المهلكة للحرث والنسل! وعليك الحساب. أضف تلك العوادم لانبعاثات المصانع والورش ومحطات الكهرباء وكل ما تم استيراده من الأجهزة والمعدّات، التي تفتقر في الوقت الراهن إلى أدنى وأبسط اشتراطات المحافظة على البيئة وصحة الإنسان. هنا؛ ابحث أو اسأل بطريقتك الخاصة: ماذا يعني أن تستنشق يومياً هواءً تشبّع بثاني أكسيد الكربون والميثان وفلوريد الكبريت؟! وسأختصر عليك الإجابة؛ إنّه يعني الانتحار!
نشرتْ مجلة Bloomberg BusinessWeek العام الماضي تقريراً بالغ الأهمية عن تكلفة أزمة النقل في العالم النامي، والآثار البيئية والصحية التي تخلفها وراءها على مجتمعات ذلك الجزء من العالم، الذي من أهم سماته اكتظاظه بالسكان فوق بني تحتية متخلفة، مقارنةً بما لدى الدول الصناعية المتقدمة. ذكر ذلك التقرير أن مايكل ربلوغل (مؤسس ومدير السياسات العالمية ITDP) بعد عدّة أبحاث ودراسات أجراها مع فريقه؛ قدّر تكلفة أزمة النقل في العالم النامي بأنها باتت تناهز 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي! والتي تشكّلتْ نتيجة الاستخدام المفرط لوسائل النقل، وتلوث الهواء، إضافةً لتكاليفه الصحية، وتكاليف الحوادث المرورية، وأخيراً التكاليف والأعباء المالية الناتجة عن الحالات الواسعة للازدحام المروري، وأن الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدخل من تلك المجتمعات هي الضحية الأكبر لتحمّل تلك التكاليف، وكم كان لافتاً قوله: إن من يموتون بسبب الأمراض المرتبطة بتلوث الهواء أكبر بكثيرٍ من ضحايا المرور!
بإسقاط تلك النتائج والتقديرات على اقتصادنا المحلي، فإن هذا يعني أنَّ حياتنا وبيئتنا المحلية تتلوّث بما تصل قيمته لنحو 273 مليار ريال سنوياً، وفقاً لإحصاءات 2012م، وأنَّ الأعراض الصحية الناتجة عن تلوث الهواء وتحديداً في مدننا الرئيسة، التي تلوّنت سماءاتها بالسواد جرّاء انبعاثات السيارات والمصانع والورش، تفسّرُ كثيراً ارتفاع نسبة الوفيات بسبب الأعراض والعلامات غير المحددة لدينا من 26.6 في المائة خلال 2004م إلى 31.6 في المائة بنهاية 2010م وفقاً للإحصاءات السنوية لوزارة الصحة، وهو ما حمل معه الكثير من المتغيرات الصحية اللافتة الجديرة بالاهتمام، والواجب أخذها بعين الاعتبار.
الخطر هنا، يتطلّب اتخاذ موقف حازم على أعلى مستويات الأهمية منّا جميعاً (حكومة، قطاع أهلي، مجتمع)، وأن يتم تبنّي هذه القضية الوطنية بأعلى مستويات المسؤولية والسرعة! قد يكون متأخّراً جداً القول بالمبادرة! فلو التفتَّ لخارج المبنى الذي أنت فيه الآن أثناء قراءتك لهذا المقال؛ فإنّك ستشاهد جزءاً من وجه هذا الشبح القاتل. لهذا، لا بد من اتخاذ ما يقتضيه واجبنا ومسؤوليتنا تجاه المحافظة على مقدرات حياتنا وحمايتها من هذا الانتحار البيئي الخطير، فهل من مستجيب؟!