«مضاعفة» الرواتب وليس زيادتها
لا يبالي معظم الناس بالعواقب الاقتصادية لزيادة الرواتب، أو لعلهم يرونها طيبة دون عيب. تحول هذا المطلب إلى مادة أثيرة في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي. لكنك لا تسمع أي نقاش جدي حول فوائده وأضراره.
تخصص الصحافة المحلية صفحات ثابتة للتقارير الاقتصادية، كذلك تفعل القنوات الإخبارية. ولدينا بالطبع عشرات من الاقتصاديين، في الجامعات والشركات ودوائر الدولة، وبينهم أولئك الذين ''يطبخون'' القرارات قبل صدورها. لكننا لا نرى نقاشا علميا جادا حول هذا الموضوع الذي تحول فعليا إلى قضية رأي عام.
ما يحيرني أن بلادنا لا تشهد نقاشات علنية حول المكاسب والكلف الاقتصادية للقرارات والسياسات الحكومية والمطالب الاجتماعية. نعلم مثلا أن برنامج نطاقات الذي طبقته وزارة العمل قد وفر نصف مليون وظيفة جديدة للمواطنين، وأدى إلى ترحيل 400 ألف وافد، وشطب 100 ألف سجل تجاري. يعرف الاقتصاديون أن هذه الأرقام تعني أن الاقتصاد الوطني يشهد تغييرات جوهرية في حجم الكتلة النقدية النشطة وحجم الطلب على السلع والخدمات والقدرة الشرائية الإجمالية واتجاهات الاستثمار وتكلفة الإنتاج.
هذا يؤثر بشكل مباشر على مستوى المعيشة لجميع الناس. لكن لا يبدو أن أحدا مهتم بمناقشة المسألة. كما لا أجد نقاشا حول الوسائل الضرورية لتلافي الأضرار التي تتعرض لها الفئات الأقل قدرة على مجاراة التغير في السوق. بالنسبة لشخص مثلي فإن رفع الأجور سيكون إيجابيا، لكن ماذا عن الطلبة ومحدودي الدخل والعائلات المعتمدة على رواتب التقاعد والضمان؟
نحن في حاجة إلى مناقشة موسعة وصريحة للقيمة الاقتصادية لأي مطلب أو قرار، في حاجة إلى معرفة انعكاساته على مداخيل الأفراد ومصروفاتهم، كي لا ننتقل من أزمة إلى أخرى. لهذا أدعو المتخصصين والمسؤولين والصحافة إلى فتح باب النقاش حول هذه الموضوعات.
سيقودنا هذا إلى نقاش آخر، تخصصي، حول معادلة الدخل/ التكلفة ونموذج المعيشة السائد في بلدنا. فالواضح أن المستوى العام للأجور منخفض في المملكة، قياسا إلى دول مثل الإمارات وقطر، أو قياسا إلى الدول الأوروبية. لا تبدو هذه الحقيقة مؤلمة، لأن مستوى المعيشة في بلدنا منخفض، وكثير من عناصر المعيشة مدعوم من جانب الدولة. لكننا نعلم أن هذا بذاته قد أدى إلى إضعاف بيئة الاستثمار، وأسهم في إعاقة التطور الطبيعي للقطاع الخاص، وانعكس سلبيا على الفرص الممكنة لحل معضلة السكن وأمثالها. أظن أن انخفاض الأجور هو العائق الرئيس لإطلاق نظام الرهن العقاري. كما أنه معيق فعلي لتوفير الرساميل الضرورية للاستثمارات الصغيرة. لكن من الخطأ أن يأتي رفع الأجور كقرار منفرد. نحن في حاجة إلى ''مضاعفة'' الأجور وليس زيادتها، لكن هذا لن يكون مفيدا ما لم يوضع في إطار استراتيجية عامة لتغيير هيكل الاقتصاد الوطني، ولا سيما معادلة الدخل/ التكلفة.