الجبيل: قصّة مدينتَيْن

.. لا بد أن نتعلمَ من هذا التقدم والتطور الكبيرَيْن في التاريخ الإنساني الاجتماعي. فقد كنا بشراً فرادى نخاف بغرائزنا ولا نشعر إلا بعملين: إشباع الجوع وإطفاء الخوف. ثم صرنا جماعات صغيرة، وكل جماعة بعيدة عن الأخرى حتى إنها لا تعلم بوجودها، وشغل كل الجماعة الالتجاء لبعضها من عاملين: الجوع والخوف. وتطور البشر إلى قبائل أكبر عدداً وتقاربوا وتداخلوا جغرافيا، فبدأ نزاع البقاء من فعل عاملين: الجوع والخوف. حتى وصلت البشرية لمدنها وحواضرها وقوانينها ويبقى السببان درء الجوع والخوف وإنما بأكثر تعقيداً وتنظيماً. هذا لم يجرِ كما تجري المياهُ بين الضفاف، إنما حُفِرَتْ له المساراتُ الجديدة بالأظافر المخلوطة بالدم والألم، لتُخلق مجتمعات جديدة أعيد تخطيط مفاهيمها للحياة المريحة من جديد.
كدنا أن نفوّت علينا كأمةٍ ومجتمعٍ تجربةَ الجبيل الصناعية من الناحية البشرية الاجتماعية. بُنيَت الجبيلُ الصناعية مدينة تحفة من تحف الإبداع الصناعي والهندسي والتخطيطي، ولكن هل هذا يكفي إن لم نخطط للبشر؟ لا بالتأكيد. لقد شيِّدَت في الجبيل الصناعية البنى التحتية والشبكات التجهيزية بأعلى الشروط العالمية، ولكن ونحن في الإجراءِ كدنا ننسى أن هناك بنية تحتية أهم وأجدى وأكثر بقاءً: البنية الاجتماعية.
وأخبركم عن قصة فولكلورية تدور بين التايلانديين عن ضفدعيْن، والتايلانديون مشهورون بأكل الضفادع ويقدمونها كحليةِ أطباقهم. الضفادع تقفز وهذا من تكوينها، فيُقال إن فلاحا أخذ ضفدعاً ليأكله، وفعل مثله صاحبه.. صاحبنا الأول سخّن الماءَ حتى غلى، ووضع فيه الضفدعَ، فقفز الضفدعُ قفزة أكبر من قفزاته المعتادة وهرَب.. وضاعتْ الوجبة. بينما الآخرُ وضع الضفدعَ في ماءٍ عادي ثم بدأ بتسخينه تدريجياً حتى استوى الضفدعُ ناضجاً سائغاً للآكلين.
المجتمعاتُ الصغيرة، عندما تضعها في مكانٍ جديد دون إعداد وتدريج تعليمي سلوكي، فإنها تقفز أكبر إلى مستنقعاتها القديمةِ من الطبقية والقبلية والانتماءات الضيقة، فيزداد التشرذمُ ويتكثفُ العداءُ، وهذا سرّ أن الأقليات تماسكها العنصري أقوى في الخارج مما هي عليه في بلادها، أو مناطقها. وهذا سمعته من المجتمعين قبل أربع سنوات في مجلس الأخ خالد ملتقيتو في الجبيل.
كما أن الجبيل العتيقة ليست على صداقةٍ مع الجبيل الجديدة الصناعية، فإذا هما برزخان لا يمتزجان، جزيرتان لا قنطرة بينهما، ولأن القنطرة غير موجودة، ولأن البرزخيْن لم يتمزجا، فالذي يتصاعد في أجواء المدينتيْن هو شيء نقيضٌ للصداقة والتوأمة.
وكان الحلُّ موجوداً، كما توصلنا معاً في مجلس أبي سليمان، والهدفُ خروج الجبيل الصناعية من حدودِ مضائقِها للمجتمع المفتوح. رأينا أن تشكيل أو زيادة الفرق التطوعية ستكون أملاً تتعلق به وإليه المدينتان، فللشباب خاصية الانسجام والقبول والتطبع بنمط سلوكي وعُرفي جديدين يمسك اللحمة الخدمية على الأرض الواحدة، وطبيعة العمل التطوعي الارتباط بين العاملين والناس المحيطين والأرض التي يقدمون خدماتهم عليها.
بعد سنوات من ذاك اللقاء رأيت فعالياتٍ تطوعية واجتماعية متصاهرة بين الهيئة الملكية والشركات وجموع الناس والشباب وأملهم لحاق الجيلِ الحاضر بما فاته، وما يحق للأجيال القادمة أن تحصل عليه.. إنهم يرسمون بالعمل الاجتماعي وبالتآلف الفِرَقي مجتمعاً واحداً بانتماءٍ واحد.. لهدفٍ واحد.
وهذا من توفيق الله لأهل الجبيل.. ولنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي