لو أنّ خالتي كشفتْ وجهَهَا للعالم
''.. العالمُ امرأة''
طاغور
عندما أرى الوجوه الغاضبة والمنادية بما تؤمن بأنه حقوقها في ساحات الاعتصام في مصر أو تونس، والحقد والظلم والمسير للموت في سورية والعراق، وعندما أرى وجوه الساسة بأقنعتهم الشمعية وبدمائهم الباردة وأعصابهم الصقيعية.. أتذكر وجهاً حبيباً.. وجه خالتي موضي.
لست بسياق عزاء نفسي بوفاة هذه الخالة القريبة لقلوبنا بشكل خاص، ولكن لطبع فيها تمنيته للعالم. طيبة الإنسان الخالية من الشوائب، كجمانة الأرض التي تحدث عنها سعدي وحافظ وجلال الدين الرومي.. لا يمكن للشرّ أن يخدشها، ولو فعل، كما يقول ''الرومي''، لعاد طاهراً مبرَّأ. من حق أي قارئ لهذه المقالة أن يقول إنها خالتك فتراها بقلبك ولا تكتنهها بواقع الظرف المدلل المحسوس.. ومعه حق. ولكن أدّعي أنها، واقعاً، وجهٌ لا يجلب إلا السلام والأمان.. والملاذ.
من صغري وأمي وأبي يشجعانني للعمل الصيفي، ولم أتخلف حتى تخرجت في الجامعة، مع أني في صغري تعلقت ببيتي وبكتبي وأخاف الخروج للجمع العام، ولكن أمي وأبي لم يتنازلا لحظة. وكانت تجربتي الأولى في مكان ''ناءٍ جداً'' في المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت، حيث التحقت بالعمل الصيفي في شركة الزيت العربية - اليابانية آنذاك. تخيلوا شعورَ صغيرٍ لم يغادر بيته ولا مكتبته إلى غربة حقيقية وعزلة مخيفة بالنسبة إليه.. ولولا أني كنت أذهب لمنزل الخالة موضي في ميناء الملك سعود القريب من الخفجي لحصل لعقلي شيء. كنت أراها فقط فأتنسم الراحة والأمان، كان وجهها وضّاءً وضيئاً منيراً لم أره عند أحد، بسمتها المترددة العالقة لا تبرح مكانها، وعينان ينبع منهما كل حنان وعطف وسكينة الأرض.
كلما زارتنا، أو زرنا الخالة موضي، أمي وأنا، أكرر عليها قوْلي: ''تدرين يا أمي، لو وضعنا علَماً بحجم كوكب الأرض وعليه وجه خالتي موضي لعمّ كوكبَ الأرضِ السلامُ''. وتحب أمي أن تقول بسخريتها الجادة: ''اسم الله على خالتك، ما تكشف وجهها لكوكب الأرض!''.
خالتي موضي لم تدخل أي نوع من الخلاف قط. لم تكن إلا تجسيداً للخير والطيبة، هي لا تسعى لإطفاء نار مشتعلة بين أطراف مختلفة لامتناع صفة الفضول، وبمجرد الاجتماع في بيتها يرف الأمانُ كحالٍ ينبع من نفوس الداخلين، وليس شرطاً يُفرض من صاحبة البيت.. صاحبةُ البيتِ خالية من الشروط. لو أن زعماءَ العالم أو الأحزاب وفرادى الناس يعيشون ضمن مظلة هذا الهدوء والسكينة لجَرَتْ أنهارُ الأرض لبَناً وعسلاً.
لم يكن لخالتي موضي مطمع مادي.. لم أعرف أنها مثلا تتسوق أو تقتني، ليست زاهدة، ولكنها ليس متطلبة أبداً لمتاع الدنيا. حرِّيٌ بمَن لا تقيم عنده مكاسبُ الدنيا همَّاً ألاّ ينظر أو يطمع في مكاسب الآخرين. انظروا، كل نزاعات العالم، من قابيل وهابيل إلى يومنا، دوما لسببٍ واحد: الطمع فيما عند الآخرين.. ضمن آلاف التبريرات. لو كان القادةُ لا يهمهم مكاسب الآخرين - كما خالتي موضي - لانتهى سبب قيام الحروب، لأن لا شعلة نارٍ تسري في فتيل.. فلا ينفجر بارود.
خالتي موضي بما أعرف جيداً لا تكذب ولا تدلّس، تقول خيراً قليلاً، وتصمتُ طويلاً، وترسل الحبَّ من طبيعة كينونتها.. كانت جسراً للمحبة، تدخل بيتها آمناً، وتخرج منه أكثر أماناً. تصوروا ما الحالُ لو أن شعوبَ العالم تتبادل الزيارات والمعارف والتبادلات في مهام العيش والكسب والمعرفة عبر هذا الجسر المبني بأعمدة الطمأنينة، والمضاء بأسرجة القلوب.
قد تحسبون الخالة موضي لم تُرم عليها دواهي الدنيا ولم تصب بأقوى أحزانها، بل تعرضت للكثير، كان عيشها وتغربها تجربة صعبة لفتاة صغيرة غادرت أهلاً تربت بينهم بكثير من الرعاية الحانية.. ولاقت ظروفاً كنا نتعجب من صبرها وعدم تغيُّر طبعها الرقيق. وآخر ما كتبه الله لها وفاة ابنٍ عزيزٍ من أبنائها الثلاثة، ناصر. كان ناصر محبوباً بدرجة فوجئت بها أنا مع أنه ابن خالتي، لما وصلتني عشراتُ رسائل الحب والامتنان من طلاّبه بالمدرسة التي يدرِّس فيها ومن جماعة مسجده، ومن جيرانه. خزّنَتْ خالتي الحزنَ العظيمَ بمخبئها العاطفي الداخلي، واستمرت ترسل أجمل ما في الدنيا من مشاعر لأحبابها.
لو أن تلك الوجوه الغاضبة في ساحات الاعتصام، ومتمترسي المدافع والدبابات رفّ عليهم عَلمُ خالتي لعادت مصرَ نيلاً عذباً كما هي، وعادت تونس شجرةَ زيتونٍ مبروكةٍ كما هي..
ولكن أمي تقول إن خالتي لا تكشف وجهها للعسكر ومعتصمي الساحات!