السميط: الرجل الذي صنع شيئاً فوق المستحيل

(*) أهدي مقالي هذا لمعلمي الدكتور عبد الله الغذامي، الذي وجهني لكتابته

* أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 481
***
* حافز الجمعة: إن الرجلَ العظيم يغير العالم، أو يغير شيئا في العالم. يأتي الشخص العظيمُ مزوّدا بطاقةٍ وهباتٍ سماويةٍ ثم يضعها على المحك الدنيوي لتكبر معه، وليوجه هذه القوى والمواهب والجماليات والقدرات الداخلية نحو هدفٍ سامٍ، يكون هو محبا ومؤمنا به. كثير منا يولد بهباتٍ من السماء، ولكنها تضيع في الأرض أو نضيعها. لذا من صفات الشخص العظيم أن ينتبه للقدرات والمواهب الممنوحة له ربانيا، ويوظفها وينميها للوصول إلى هدف كبير في خدمة الإنسانية.
***
* شخصية الأسبوع.. وكل أسبوع: كان الدكتور عبد الرحمن السميط بقدراتٍ كبيرة جدا، لم تكن قدرات قوة وهيمنة وسطوة شخصية، بل كانت قوة بساطة، وكأنه غاندي، وقوة جمالية وكأنه مانديلا.. وقوة روحية وكأنه مصلح ديني. كان يملك إرادة حديدية لا تهزم موشّاة بقماش لطيف من الكتان الرطب اللين.. وكان ذكيا بلا اعتداد فلا تراه إلا من عداد الناس، كان بسيطا بالفطرة لدرجة أنه يستحي أن يعبر حدود تلك البساطة وكأنها المبدأ البشري العام.. كان فعلا يعيش من ضمنه بداخلٍ نوراني كبير، ولكنه لم يعتزل صوفيا، ولم يخرج انفجارا إعلاميا.. كان رجلا بسيطا يحمل معه النور.. بل هو أكثر من ديوجين الإغريقي حامل مشعل النور في النهار، كان السميط تتبعه قوافل النور أينما راح وأينما حل. كان أوضح من يمثل أن باب النجار مخلوع، فقد كان طبيبا متمرسا وكان مريضا مهملا بامتياز.. ولكنه أنجز ما لا تنجزه جيوش من الأصحاء، وأفاد كثر مما أفادت بعوث من المستنيرين والمعلمين.. وكان بحاله، بمفرده، أداة دعوة تعدت كل كتائب الكنائس التي تدب في وسط إفريقيا حيث الكثافة بالشعوب والغابات والثروات، وكأنه عربة الله هناك. مع أنه كان يقول أنا لا أتدخل في سياسة الدول ولا الدعوة المباشرة.. ولكن أعماله تدوّخ الناس من فرط سموها فيدخلون الإسلام جماعات.. كانت له إمبراطورية كإمبراطوريات إفريقيا الأسطورية في وسط إفريقيا وانسحاب الجرف الصومالي ناحية كينيا.. وقد وصل كل من له صلة للجنة إفريقيا التي أسسها وعمل لها ومن أجلها الدكتور السميط نحو الـ 44 مليون نسمة. ولي مقالة مفصلة عن ذلك. لقد كتبت عن هذا الرجل الخرافي أكثر من 12 مقالة، ولما كتبت عنه بالإنجليزية بـ "العرب نيوز" جاءني رد من موزامبيق بأنهم جماعة كلهم طبقوا نظريات الصميد المايكرو ــ اقتصادية ودخلوا الإسلام من إذاعاته المنتشرة في القارة. رجل مثلنا.. لا، أبسط منا، بسط ظله على قارة كاملة وحيدا، وكأنه المارد "ايسنوا" الذي تقول أسطورة الزولو إنه حكم إفريقيا بإبهامه.. ربما أكثر!
***
* كان حظّي عظيما، لم أستطع أن أوقف قلبي وصديقي "صالح الحميدان" يعرض عليَّ رحلة مع الدكتور السميط لتنزانيا كأنموذج لأعماله، بدعوة من الشيخ محمد الخميس الذي يرأس لجنة إفريقيا في السعودية.. كانت رحلة فوق الحلم بجمالها وإعجاز التجربة التي وقعنا عليها من أعمال السميط وفرقته ومتبرعيه الكُثر، وربما يذكر الصديق الشيخ إبراهيم الدويش، وقريبي وصديقي رجل الأعمال خالد العبد الله الزامل روعة وفرادة لتلك الرحلة. من أطرف ما مرّ علينا من طبع السميط ــــ هذا الغريب الذي يرى تصرفه طبيعيا ــــ أنه كان يشعر بالذنب وهو يدخل صالون فندقنا، فقد أكرمنا بالنزول في فندق فخم في "دار السلام"، نعم، كان يخجل أن يدخل بهو الفندق الفخم، مع أنه لم يسكن معنا ولكن في مَبْعدَةٍ لا نعلم أين هي، ربما كوخ! لا تستغربوا، فهو لم يعش إلا في الأكواخ حتى مع زوجته العظيمة وأولاده. إنها سيرة من سِيَر الرجال الخرافيين، الذي يحلو للقاص أو الراوي أن يبالغ في وصف شمائلهم وندرة نوعهم.. على أن في السميط مشكلة لأي راوٍ أو مؤلف.. إنه كان أكبر من أي قصة، من أي رواية.. من أي خيال.
***
* رأينا في زيارتنا مشاريع السميط في تنزانيا وجزيرة زنجبار ــــ وهذه الجزيرة تاريخ طاف في البحر لقوة العرب القريبة ودحرهم الأقرب، وقصصها لا تبعد عن حكايا شهرزاد ـــ وتستحق إفراداً خاصا ــــ وكانت المشاريع يا أحبابي مشاريع دول، مراكز ومستشفيات وجامعات.. هذا الرجل البسيط الذي كان معنا يسحرنا ويطير بنا لمقامات الإعجاز لبس يومها ثوبا ضاع إزرارٌ فيه فوضع مكانه مكلبا صغيرا من الألمنيوم ذلك الذي يستخدمه الخياطون للوصل المؤقت، ثم يرمونه، لكنه بدا لنا بإهاب لا يمكن أن تجد له نسيجا مماثلا أرضيا، حتى ذاك الثوب البعيد دهرا عن المكوى الناقص الأزرة كان كعباءة القديسين.
***
* في عودتنا نمت علاقة قريبة وحميمة بين الشيخ السميط وبيني بعد أن كتبت له ورقة عن انطباعاتي وإعجابي به، وأتى بها إلي وقال لي: رسالتك هدية ومكافأة من الله لي، لقد أسعدتني واحتفظ بها ونشرها في مجلته الكوثر مرات.. وعجبت أن يكون صغير هامشي مثلي يحرّك شيئا في قلب جبار ملأ قارة إفريقيا. وتعلمت درسي الأكبر.. لما يتواضع الكبيرُ للصغير، فإنه يخلع عليه أولى صفات الكبار: والتواضع والبساطة وإظهار الفرحة بأعمال الناس.
***
* قابلت الدكتور السميط أطول بعد حفل استقبال أقيم له في مدينة الدمام بعد سنتين من زيارتنا تلك.. وقال لي وهو يودعني، هل ستكتب رسالة أخرى لي؟
***
* التقصير: لم أكتب تلك الرسالة الأخرى!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي