رسالة إلى أحفاد أحفادي

عندما تقاعدت من العمل في نهاية عام 1996، ألَّفت كتيِّبًا يقع في 340 صفحة من الحجم المتوسط وعنونته "رسالة إلى أحفادي". تضمن الكتاب مختصرًا لسيرة حياتي، ونبذًا قصيرة عن مختلِف أوجه الحياة، وبعض التقاليد السائدة آنذاك في زمن طفولتنا التي سبقت عصر القفزة أو الطفرة النفطية. وكان الهدف من الكتاب عرض أحوالنا السابقة ومقارنتها بالأحوال اللاحقة، لعل ذلك يكون دافعًا للأجيال القادمة لاتخاذ العِبَر وبذل الجهد من أجل مستقبل زاهر. وهذه ليست دعاية وترويجًا للكتاب، فقد نفدت النسخ القليلة المطبوعة. وفي هذه المناسَبة أود توجيه رسالة شخصية إلى جيل لم يولد بعد، أو لعلها رسالة اعتذار للأجيال المقبلة عما بدر منا، نحن جيل الطفرة، من تعدٍّ صارخ على حق من حقوقهم وتقصير فاضح في إعداد آبائهم لتحمل مسؤولية نقل الأمانة التربوية من جيل إلى الذي يليه. فقد انتقل جيلنا من حال كان يسودها شح كبير في الموارد المالية ونقص حاد في مصادر المعيشة وغياب تام لوسائل النقل الحديثة. وحتى التعليم النظامي الحديث لم يكن له مكان في حياتنا آنذاك. وفجأة، ودون سابق إنذار، وجدنا أنفسنا نعيش فوق بحيرات من النفط الخفيف والثقيل والمتوسط وكميات هائلة من الغاز الحلو والمر. وهل تريدون منا يا أولادي سماع الحقيقة؟ لم نكن نحلم بوجود هذه الثروات الثمينة المخفية تحت أرضنا الصحراوية، بعيدًا عن أعين الطامعين والحساد. وكما سوف تعلمون، فقد وفقنا الله ويسر لنا أمور استغلالها والاستفادة منها في العصر المناسب وفي الوقت المناسب، حتى أن حياتنا ومعيشتنا أصبحت مرهونة بطول بقائها. ويا ليتها تكون دائمة، تمدنا بكل ما نحتاج إليه من الطاقة والدخل المتنامي مدى الدهر، فنريح ونستريح. ولكنها، وعلى الرغم من ضخامة كمياتها بالنسبة لعدد سكان بلادنا وما هو موجود عند غيرنا من الشعوب، فهي مع الأسف ثروة ناضبة، ولها عمر محدود. أي أن لهذه الثروة الكبيرة نهاية، كما هي الحال مع كل شيء على وجه هذه الأرض، فالبقاء لله جَلَّ شأنه.
وكنا، ونحن في مقتبل العمر، نسمع من أهلنا أن الشيء الذي لا تبدأه بذكر الله وبسم الله الرحمن الرحيم، تُنزع منه البركة. فلو كان بين يدي أحدنا طعام أو شراب ولم يذكر اسم الله عليه قبل البدء في أكله أو شربه، فقد ينتهي قبل أن تشبع أو تروَى منه، وكأن أحدًا يشاركك في تناوله، أو هكذا كنا نظن كجزء من تربيتنا. ونحن لا نذكر أننا، قبل بدء إنتاج نفطنا، قلنا "ما شاء الله وبسم الله الرحمن الرحيم". ونخشى أن تكون البركة في هذه الثروة قد طارت أو نُزِعت منها، وأنها ربما تنضب أو تنتهي قبل أن نكون قادرين على العيش من دونها. وأصبحنا، أو على الأقل النابهين منا، نخشى على مصير أولادنا وأحفادنا الذين يعيشون عصرنا، فما بالكم أنتم يا أحفاد الأحفاد؟ وليس من الضروري أن يكون نزع البركة معنويا. فقد يكون النقص أو سرعة النضوب ناتجا عن إسراف في الإنتاج والاستهلاك، وهو أمر واقع ولا سبيل لنفيه أو إنكاره. فنحن أمة مسرفة إلى حد الجنون، ليس فقط في الإنتاج والاستهلاك بل في جميع شؤون حياتنا. ولنضرب لذلك مثالا بسيطًا من صميم واقعنا. فمن المعلوم لدى الجميع أن الماء شحيح جدًّا وسط هذه الصحراء المجدبة. فلا أنهار ولا بحيرات وندرة كبيرة في نزول المطر. والمياه الجوفية التي نستهلكها منذ القِدم كان قد تم تخزينها في الطبقات الأرضية منذ عشرات الآلاف من السنين، في عصر نزول الأمطار بكثافة هائلة. فهي مياه جوفية ومحدودة وتكاد لا تستقبل أي كميات إضافية جديدة بسبب شح نزول الأمطار خلال السنوات المتأخرة. وربما أنكم تتوقعون، والحال هذه، أن نكون أكثر واقعية وأكثر وعيًا فنقنن استهلاكنا من الماء من أجل إطالة عمره وإبقاء نصيبكم منه. أبدًا أيها الأحباب وفلذات الأكباد. بل تصرفنا عكس ذلك تمامًا، كما فعلنا مع غيره من المداخيل المؤقتة. فلم نسرف قليلاً بل كثيرًا وكثيرًا. ولقد وصل استهلاكنا للماء على ظهر هذه الصحراء إلى ضعفي المعدل العالمي! مع العلم أن معظم دول العالم تعيش على شواطئ البحيرات أو ضفاف الأنهر، والبعض الآخر تهطل عليهم أمطار غزيرة تكون أحيانًا سببًا لحدوث فيضانات مدمرة. ومن الصعب علينا أن نتخيل حياتكم دون نفط ولا ماء، ولا مفر ولا ملجأ إلا إلى الله. ونحن نعلم ونعترف أننا سنكون سبب شقائكم ونكد حياتكم. وعزاؤنا أنكم لن تستطيعوا محاسبتنا في هذه الدنيا الفانية، وإن كنا نستحق أكثر من الملامة والتعنيف. فقد ارتكبنا في حقكم من الأخطاء ما لا يعلمه إلا الله. وقد كان بوسعنا، لو تغلبت إرادة الخير في نفوسنا، الاقتصاد في جميع شؤون حياتنا ومعيشتنا وعدم المساس بنصيبكم من الثروات الطبيعية. وكان باستطاعتنا يا أيها الأحباب أن نكون قدوة حسنة لأولادنا بالجد والعمل والإنتاج، وهم بدورهم يحملون الرسالة والمسؤولية لأولادهم وينقلونها من جيل إلى جيل.
لقد حاولنا ثم حاولنا، وما زلنا حتى كتابة هذه السطور نحاول، أو بالأحرى نتحدث، عن العمل على إيجاد مصادر للدخل من باب التنويع حتى لا يكون مصير أمتنا حاضرها ومستقبلها مرتبطا بمصدر ناضب، وكذلك من أجل الرفع من شأننا بين الأمم الحية التي لا ترى في وجودنا إلا الاتكالية والاعتماد على النفط. ونحن نعلم أن لدينا المقومات ولدينا الرغبة في إنقاذ مستقبلنا من المصير المجهول. ولكن تنقصنا قوة الإرادة وحسن التصرف وبُعد الرؤية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي