من يكن الموت له مطلبا فمن يهزمه .. موته انتصار
ــــ في لقاءٍ مع شباب الجالية الهندية في الخبر، سأل الشاب محمد زادة: كان المسلمون يفتحون البلاد مثل السكين في قالب الكعك ــــ يتحدث محمد بالإنجليزية ولا ينبو عن الأذن هذا التشبيه ــــ فهل فازوا ''بجدارة''، أم فقط لأن الله معهم؟
كان السؤال من أقوى وأعمق الأسئلة التي وُجّهت إلي، وخصوصا أنه يتعلق بالتاريخ الإسلامي والنقل ثم الاستنتاج. كان لا بد لي أن أجيب الشاب بما أعرف، وأحمد الله أنه والفريق الشاب الذي يربو على المائة استمرأوا الإجابة التي كانت قصصا معبرة عن نفسها. وفاجأتنا الفتاة ''مهيوبا'' ذات الأربعة عشر ربيعا، بشِعر مسبوكٍ بالإنجليزية على طريقة شِعر ''كيت''.. عفو الخاطر! بعنوان: ''جندي الفتوح.. أنت بطلي''. وأنقل لكم ما قلته لمحمد زادة وصحبه.
إنها الحكمة الإلهية تشاء أن تجعل مقياس المجاهدة والصبر على المعاناة مقياسا للإيمان، ولتجري الحياة طبيعية بقدرات وفطرة البشر، وهذا من ألمع مفاهيم الإسلام. فالمسلمون لم يكسبوا نصرا واحدا إلا بعد أن دفعوا الثمن الباهظ من دمائهم، ومن جروحهم، ومن شهداء بأعدادٍ كبيرة بالنسبة لذلك الزمان وتعداده البشري. لم يعرف جنديٌ في التاريخ، كما يقول ''توينبي''، الضَنَك كما خبره الجندي المسلم.
طرق فتوح الإسلام كانت مفروشة بالصخر المدبب وبالأشواك العاتية، وخضبتها من ابتداءاتها إلى نهاياتها دماءُ الجنود الشهداء، والباقون يتحملون مناظر الموت، بل انظروا إلى ''أبي عبيدة عامر بن الجراح'' الطويل المشرب بالسمرة صاحب الإيمان العميق والزهد في الدنيا والثقة العظيمة بالله، يقف في ميدان المعركة ويقرأ على الموتى الفاتحة، ويقول: ''هنيئا لكم الشهادة سبقتمونا إلى دار العُقبى''. وأول مطلب لجندي مسلم هو الشهادة، ومن يكن الموت له مطلبا فمن يهزمه .. موته انتصار!
وانظروا لعكرمة بن أبي جهل وهو معروف مع أبيه، فقد قيل له: ''نراك تترامى على الموت يا عكرمة بين الصفوف''، فيرد عليهم قائلا: ''لقد طالما آذيت رسولَ الله والمسلمين، أنا وأبي، فأحب الآن أن أبيع نفسي من الله في سبيل رسول الله''.
ولقد قيل للمثنّي بن حارثة: ''أما تخشى السيوفَ؟'' فيرد: ''أنا رجلٌ خلّفتُ الموتَ ورائي، فماذا أهاب؟''، وأذكر قصة عن ''عُمير بن الحُمام'' ــــ من بني سلمة من الأنصار ــــ الذي سمع رسول الله ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ يقول يوم بدرٍ: ''والذي نفس محمدٍ بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة''. فقال ابن الحُمام، وفي يده تُمَيْرات يأكلهن: ''بخٍ بخٍ! أما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟''، فقذف التميرات، وأشهر سيفَه، وقاتل حتى حصل له ما تمناه .. الموت.
سر أولئك الرجال الإيمان، والاستهانة بالموت والأنفة من الهزيمة والصبر على المحن، وتحمُّل أفظع الآلام، كثيرا ما تقطع أياديهم أو سيقانهم ويواصلون بحماسةٍ أكبر.
صحيح هم بشر، ولكنهم يراجعون أنفسهم، كقصة رجل من جند خالد بن الوليد في قتال اليمامة فرّ من ميدان المعركة خوفا على حياته. فلما صار وحيدا في الخلاء توقف وصار يتساءل: ''ويل أمي! مم فزعت؟ من رجالٍ مثلي بأيديهم سيوف مثل سيفي هذا؟! قبحني الله وبئس السيف سيفي..''، ثم رجع للساحة لا يلوي، وحارب حتى قُطعت يدُه اليسرى.
وفي ''الطبري''، وهو كتاب أحب إعادة قراءته حتى علق بذاكرتي الكثير مما احتواه، عن حروب الردة في معركة اليمامة بالذات ضد مسيلمة الكذاب. استعصت على المسلمين ما تسمى حديقة الموت التي تحصن فيها مسيلمة الكذاب وجنوده، إلى أن طلب مقاتل مسلم من أصحابَه أن يرموه فوق سور الحديقة التي تحصن فيها مسيلمة وجنده، فقاتل الحراس وفتح البوابة ودخل المسلمون وانتصروا، ولم يكن نصرا سهلا فقد قدم المسلمون في ذاك اليوم عشرة آلاف روح!
ولقد استشهد في قتال اليرموك وحروب الشام من المسلمين أعداد هائلة حتى أن ''المقريزي'' قال: ''لو رفعت أي حجرٍ في أرض الشام لوجدت تحته للمسلمين شهيدا''.
من المدينة المنورة حتى ''كاشغر'' في الصين وإلى ''سمرقند''، وحوضي نهر السنغال وجامبيا أقصى غرب إفريقيا، ودنقلا شمالي السودان، إلى ''سانس'' سبعين كيلومترا فقط جنوب باريس، فتوحٌ رُصِفَت بدماء شهداء المسلمين.
لذا قالت الفتاة الهندية ''مهيوبا'' في قصيدتها:
خذني على بساط الدم السحري يا جندي الإسلام
من كاشغر الصين، إلى جنوب باريس..
لو سرتَ قليلا يا بطلي..
لكنتُ الآن أصلي في جامع الشانزليزيه في باريس المسلمة!