أسواق السندات الحكومية في العالم تجتذب 38 تريليون دولار
على الرغم من تراجع الأسهم في مستهل التداول في البورصات الأوروبية، إلا أن الدوائر الاقتصادية الأوروبية أعربت عن سعادتها بتوصل مجلس الشيوخ الأمريكي إلى اتفاق بشأن الموازنة، واستعداد واشنطن لسداد ديونها، واستئناف الأنشطة الحكومية المتوقفة.
هذه السعادة لم تمنع عددا كبيرا من العاملين في البورصات الكبرى ومن ضمنها بورصة لندن من التأكيد على أن هناك دروساً كثيرة مستفادة من الأزمة الأمريكية الأخيرة، لكن الاختلاف كان واضحا حول كيفية التعامل مع تلك الدروس.
يقول ريتشارد آدس المحلل في بورصة لندن لـ ''الاقتصادية'': إن الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين حول سقف الدين، أثبت أن العالم قرية كونية واحدة، لكن هذه القرية رهينة لأمريكا، وأن مصير الاقتصاد العالمي في يد واشنطن سواء قبلنا هذا أو لم نقبل، فالأزمة الاقتصادية انفجرت في أواخر عام 2008 في الولايات المتحدة وأخذت كل بلدان العالم معها، والآن كان من الممكن أن يحدث انهيار اقتصادي عالمي آخر بسبب واشنطن.
وأضاف أن هذه حقائق لا مفر منها، والأمر الآخر أن الاقتصاد الأوروبي وتحديدا البورصات هى أحد أكبر المتضررين من هذا الوضع، لكنها أيضا أحد أبرز المستفيدين عندما يتحسن وضع الاقتصاد الأمريكي، فخلال الأيام الماضية تعرضت كل بورصات الاتحاد الأوروبي لخسائر تفاوت مقدارها من بلد لآخر، والآن البورصات جميعها تحقق انتعاشاً جراء القرار الأمريكي، فالتوصل إلى اتفاق في اللحظات الأخيرة لاستئناف عمل الحكومة الأمريكية وتفادي التخلف عن سداد الدين دفع بعض المستثمرين إلى البيع لجني أرباح من مكاسب الأربعاء الماضي.
ويعتبر ريتشارد أن الدرس الرئيس المستفاد من أزمة سقف الدين الأمريكي بالنسبة لبلدان الاتحاد الأوروبي هو ضرورة تنويع بلدان الاتحاد لعلاقاتها الاقتصادية وزيادتها مع ما بات يعرف بالاقتصاديات الناشئة، ويعلق على ذلك لـ ''الاقتصادية'' بأنه ربما تكون معدلات الربحية أقل عند الحديث عن أسهم الشركات المنتمية للاقتصادات الناشئة أو حتى السندات الحكومية في الصين أو الهند أو روسيا أو البرازيل أو جنوب إفريقيا، لكن طبيعة النظام السياسي في هذه البلدان تجعل من الصعب للغاية أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه في الولايات المتحدة.
ويعتقد عدد من الاقتصادين الأوروبيين وفي مقدمتهم أستاذ الاقتصاد المقارن في جامعة نتينجهام الدكتور دي . ار. بلامنفيلد أن الخاسر الأكبر في الأزمة الراهنة هو السندات الحكومية الأمريكية، وأن تلك الأزمة لربما تعود بالنفع على الاقتصادات الأوروبية. ويعتبر بلامنفيلد أن أزمة سقف الدين أضعفت ثقة المستثمرين بسندات الحكومة الأمريكية وقدرة الخزانة الأمريكية على سداد الفوائد المترتبة عليها، ومن ثم يتوقع أن يتراجع إقبال المستثمرين الدوليين عليها.
وأضاف أن العديد من المستثمرين سواء أفراداً أو دولا تجذبهم العوائد المضمونة لسندات الخزانة الأمريكية، فالسندات في حد ذاتها هي إحدى وسائل الاقتصاد الأمريكي للاقتراض سواء من الداخل أو الخارج، ولأن العالم يثق بالولايات المتحدة وقدراتها الاقتصادية، فإنه يستثمر في هذه السندات، بالطبع الأزمة الراهنة أفقدت أمريكا بعض الثقة التي تتمتع بها في أعين المستثمرين، وخاصة في السندات الحكومية قصيرة الأمد والتي يحتفظ بها لشهر واحد، حيث تخلصت معظم الشركات الكبرى من هذه السندات منذ أن أضحت نذر عاصفة سقف الدين في الأفق، بينما لم تتأثر السندات التي تمتد لتغطي عشر سنوات أو أكثر.
وأشار إلى أنه مع قلق المستثمرين مما حدث فإنهم سيسعون للبحث عن بدائل، فسوق السندات الحكومية في العالم تبلغ قيمته 38 ترليون دولار، متوقعاً أن تكون السندات الحكومية الأوروبية جذابة للعديد من المستثمرين في العالم وخاصة السندات الألمانية، باعتبار أن الاقتصاد الألماني قوي للغاية ويمثل القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، ولهذا أتوقع أن يتوجه إليه الراغبون في الاستثمار على الصعيد العالمي.
لكن وجهة النظر تلك لا تلقى تأييداً كبيراً من الباحثة الاقتصادية جبريلا ميلاند من مؤسسة مورجان ستانلي والتي تعرب لـ ''الاقتصادية''، عن قناعتها بأن أزمة سقف الدين الأمريكي لن تؤثر كثيرا في مواصلة المستثمرين الدوليين الاستثمار في السندات الحكومية الأمريكية، مضيفة أن الأزمة الأمريكية هى أزمة سياسية وليست اقتصادية، ومن ثم لا يوجد لدى المستثمرين الدوليين أي شك في أن الاقتصاد الأمريكي يمتلك من عوامل القوة ما يمكنه من سداد ديونه.
فالأزمة هي أزمة إجرائية أكثر منها أزمة في الاقتصاد الحقيقي، مدللة على موقفها هذا بالقول إنه لو كان هناك مخاوف حقيقية لتخلص المستثمرون من السندات طويلة الأمد، التي تصل من خمس إلى 30 سنة، ومعدل الفائدة فيها يبلغ 2.73 في المائة، وهذا النوع من السندات الحكومية لم يحدث فيها تأثير يذكر، وبناءً على ذلك فإن جبريلا لا تتوقع أن تعود الأزمة الراهنة بأي نتائج على الاقتصادات الأوروبية أكثر من حالة القلق التي أصيبت بها البورصات الأوروبية مثلها في ذلك مثل كل بورصات العالم. وأضافت الباحثة الاقتصادية في مؤسسة مورجان ستانلي، أنه بالنسبة للاستثمار في السندات الحكومية فإن أوروبا ليست المكان الجذاب، ربما لو أصيب البعض بالقلق من الأزمة الأمريكية فإنه سيسعى للتخلص من سنداتها الحكومية قصيرة الأمد، ولكنه لن يستثمر في السندات الحكومية الأوروبية، فليس للاقتصاد الأوروبي الثقل الذي يحمله الاقتصاد الأمريكي، ولكن يمكن الاستثمار في مجالات أخرى في أوروبا ولكن ليست السندات بالتأكيد.
بيد أن البعض يعتقد أن أزمة سقف الدين الأمريكي وعلى الرغم من توصل الكونجرس لاتفاق بشأنها إلا أنها ستترك تأثيرات سلبية على الأمد الطويل في الدولار كعملة دولية، وهو ما يفتح أفقا أوسع أمام العملات الأخرى وخاصة اليورو والاسترليني لتحقيق مكاسب على حساب الدولار.
إلا أن عدداً من الخبراء في مجال العملات يعتقدون أن الدولار خرج من الأزمة الراهنة كعملة قوية لن يستطيع اليورو أو الاسترليني منافستها، ويؤكد آرثر كريستين من مؤسسة الإخوة براون لتجارة العملات، أن البعض يعتقد أن الضغوط التي تعرض لها المشرعون في الكونجرس بأن تواصل الأزمة يعني خفض الجدارة الائتمانية لأمريكا، ولهذا تأثير سلبي في قيمة الدولار كعملة دولية، وقد دفع الجميع إلى الاتفاق في نهاية المطاف، ربما هذا صحيح لكن الأكثر دقة أن المجتمع الدولي ليس أمامه من بديل آخر في الوقت الحالي غير اعتبار الدولار العملة الدولية.
وأضاف أن أوروبا تسعى لجعل اليورو العملة الدولية محل الدولار، ولكنها فشلت في إقناع لندن في أن تتخذ من اليورو عملة لها وأن تتخلي عن الاسترليني، فكيف يمكن أن تقنع العالم بأن يجعل اليورو عملته الدولية. ثانياً الأزمات الاقتصادية في أوروبا أكثر عمقا وتعقيدا منها في الولايات المتحدة وحتى الآن لم تفلح في الخروج منها، ومن ثم لا أعتقد أن أزمة سقف الدين الأمريكي ستتيح للأوروبيين أن يحققوا طموحاتهم بجعل اليورو عملة دولية.
إلا أن الصحافي الاقتصادي في صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية ديرك ماركس، يعتبر أنه من المبكر معرفة تأثير أزمة سقف الدين الأمريكي في اليورو، ويعلل ذلك لـ ''الاقتصادية'' بأن الأمر سيرتبط بردود فعل المستثمرين في سندات الخزانة الأمريكية، فإذا واصل المستثمرون الإعراب عن ثقتهم بها وواصلوا الاستثمار فيها فسيظل الدولار هو العملة العالمية الأولى، أما إذا أفقدت تلك الأزمة الثقة بسندات الخزانة الأمريكية واتجه المستثمرون للسندات الألمانية أو الفرنسية، فسيرتفع الطلب العالمي على اليورو، وسيكون ذلك مؤشرا على أن اليورو يتحول تدريجيا ليحل محل الدولار.