الاستدامة المالية للاقتصادات العالمية
مصطلح الاستدامة المالية العامة أو الحكومية هو أحد المصطلحات المستخدمة في السياسات المالية. ولا يوجد اتفاق على تعريف محدد لهذا المصطلح، ولكن يمكن تعريفه بشكل عام على أنه الحالة المالية التي تكون فيها الدولة قادرة على الاستمرار في سياسات الإنفاق والإيرادات الحالية على المدى الطويل دون خفض ملاءتها المالية أو التعرض لمخاطر الإفلاس أو عدم الوفاء بالتزاماتها المالية المستقبلية. وتعتمد الاستدامة المالية على توقعات الإنفاق والإيرادات المستقبلية طويلة الأجل. ويتم بموجب هذه التوقعات تعديل السياسات الحالية سواءً بزيادة أو خفض النفقات أو الإيرادات. ويلزم لضمان استمرار الاستدامة المالية للدول توافر القدرة السياسية والقانونية والاقتصادية للحد من نمو تكاليف برامج الإنفاق الحالية، أو السماح لها بالنمو ضمن معدلات معينة، أو إيجاد مصادر جديدة للإيرادات أو رفع معدلات الإيرادات الحالية. ويرتبط مصطلح الاستدامة المالية بمصطلح آخر يسمى الفجوة المالية. وتعرف الفجوة المالية باختصار على أنها الفرق بين القيمة الحالية لجميع التزامات الدولة وإيراداتها المستقبلية.
وتسعى الدول لتحقيق وضعية الاستدامة المالية لكي تتمكن من الاستدانة لتغطية عجوزاتها المالية وبشروط ميسرة. ويؤدي فقدان الدول للاستدامة المالية أو تراجع ثقة الأسواق بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها إلى توقف الدائنين عن إقراضها، أو رفع معدلات الفائدة على قروضها إلى مستويات عالية، ووضع ضوابط وشروط لاقتراضها. ويقود عجز الدول عن توفير التمويل اللازم لأنشطتها إلى تراجع عدد ومستويات الخدمات، والرعاية الاجتماعية، والدعوم المقدمة لمواطنيها. وإذا تفاقم التراجع في الخدمات والمنافع الحكومية فقد يؤدي في النهاية إلى تشنجات واضطرابات سياسية واجتماعية تهدد استقرار الدول وحتى وجودها.
وتعتبر معدلات الزيادة السريعة في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي أكثر العوامل المؤثرة سلباً في استمرار تمتع الدول بالاستدامة المالية. وهناك العديد من العوامل الأخرى التي تؤثر في الاستدامة المالية للدول ولعل أهمها معدلات الفائدة الحقيقية، ومعدلات نمو الناتج المحلي الحقيقية، ومعدلات نمو النفقات والإيرادات. وتقود معدلات نمو الإنفاق الحكومي بنسب أعلى من نمو الايرادات، وتراجع النمو الاقتصادي، وارتفاع الفائدة الحقيقية في المستقبل إلى توقع ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي وارتفاع إمكانية فقدانها لملاءتها المالية. وتسعى حكومات العالم إلى استمرار استدامتها المالية وذلك لما تحققه من خفض في تكاليف تمويل ديونها، وتساعدها على توفير الاستقرار الاقتصادي. ويمكن تحقيق الاستدامة المالية أيضاً الدول من الحصول على التمويل اللازم للتوسع في الإنفاق على المشاريع العامة وتقديم الخدمات لمواطنيها. وتعكس الاستدامة المالية مستوى نجاح سياسات المالية العامة وتعطي ثقة للقطاع الخاص للاستثمار في البلدان التي تتمتع بها.
وقد أدت الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008 والركود الاقتصادي العظيم الذي نتج عنها، والمصيدة النقدية التي وصلت إليها السياسات النقدية إلى لجوء الدول إلى السياسات المالية التحفيزية وذلك لتجنب كساد اقتصادي عالمي. وقد نتج عن تراجع الإيرادات الضريبية بسبب الركود الاقتصادي، وزيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصادات إلى إحداث عجوزات مالية هائلة في الدول المتقدمة وكثير من الدول النامية. وقادت هذه السياسات إلى نمو سريع وكبير في نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في كثير من دول العالم. وقد يسّر انخفاض معدلات الفائدة الأساسية من عمليات الاقتراض مما شجع الدول الصناعية على الاستمرار في عمليات الاقتراض حتى تعدت معدلات الدين الحكومي إلى الناتج المحلي في كثير من الدول المعدلات التي كانت تعتبر آمنة. وبدأ العديد من الدول المتقدمة يعاني أزمة ديون حقيقية بما في ذلك الولايات المتحدة. وشرعت الدول الصناعية في ابتداع سياسات نقدية جديدة لتحفيز الاقتصاد. وقد نجحت هذه السياسات في الخروج من الركود وساهمت في رفع أسعار الأصول، ولكنها لم تفلح في تحقيق نمو اقتصادي جيد حتى الآن. وما زالت الدول الصناعية تعاني تراجع معدلات النمو كما بدأت معدلات نمو عدد من الدول الصاعدة ــــ التي استفادت من سياسات التيسير الكمي بطريقة غير مباشرة ــــ بالتراجع بعدما كانت تساهم بقوة ولفترة وجيزة في جر قاطرة الاقتصاد العالمي مما يهدد بتراجع معدلات النمو العالمية.
وسيخفض تراجع معدلات النمو العالمية من معدلات نمو الكثير من دول العالم المثقلة بالديون مما سيؤثر بدرجة كبيرة في نمو ايرادات حكومات هذه الدول المستقبلية. وسيرفع تراجع نمو الإيرادات في هذه الدول من مخاطر فقدان استدامتها المالية. من جهةٍ أخرى فإن التوقف عن سياسات التيسير الكمي أو خفض استخدامها سيقود مع مرور الوقت إلى رفع معدلات الفائدة الحقيقية. وهذا سيرفع من تكاليف خدمة ديون كثير من الدول الصناعية والنامية مما سيؤثر سلباً في استدامتها المالية. ويضاف إلى ذلك ما حدث أخيرا من عجز واضح للإدارة الأمريكية في تبني سياسات مالية داعمة لاستدامتها المالية ومهددةً للوضع المميز الذي تتمتع به الولايات المتحدة والذي يوفر التمويل لها بشروط ميسرة. ويتمتع الاقتصاد الأمريكي بثقة الأسواق بقدرة والتزام الحكومة الأمريكية على دفع مستحقات ديونها، كما مكن اعتبار الدولار العملة العالمية الاقتصاد الأمريكي من اقتراض مبالغ هائلة من الاقتصادات العالمية مقابل إصدار هذه العملة. وسيقود الفقدان التدريجي للميزات التي يتمتع بها اقتصاد الولايات المتحدة إلى تراجع ثقة المقرضين والتسبب في إحداث نتائج كارثية على الاقتصاد العالمي. لقد أصبحت التطورات الاقتصادية العالمية أسيرة لدرجة كبيرة للسياسات المتخذة لمجابهة الركود الاقتصادي العظيم في عام 2008، ولا سبيل للخروج منها إلا بتعاون الاقتصادات الرئيسة الممثلة بمجموعة العشرين لدعم الاستدامة المالية لهذه الدول واتخاذ سياسات جماعية ومنسقة للحد من مخاطر فقدان الاقتصادات الكبيرة لاستدامتها المالية.