الاتفاق النووي الإيراني .. صراع إرادات
بعد طول شد وجذب توصلت إيران والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا، في الرابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي إلى اتفاق مؤقت لمدة ستة أشهر بشأن البرنامج النووي الإيراني والعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بسببه. وتخللت هذه الفترة تهديدات متبادلة بالعمل العسكري، إضافة إلى عقوبات اقتصادية فرضت على إيران. بعض هذه العقوبات فرضت من خلال مجلس الأمن، وهو ما يفسر اشتراك الصين وروسيا في هذه المفاوضات، وبعضها انفردت بها الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وأول أمر يمكن ملاحظته أن هذا الاتفاق يمثل نجاحاً للعمل الدبلوماسي المقرون بعقوبات اقتصادية صارمة. وأدى هذا الاتفاق إلى أن تقدم إيران تنازلات مهمة- سنتعرض لها في هذا المقال- ما كان لها أن تقدمها لولا أن العقوبات الاقتصادية كانت فاعلة إلى حد كبير ودون إطلاق رصاصة واحدة، فإيران بلد ذو تعداد سكاني كبير (أكثر من 70 مليون نسمة)، ولا تزال صادرات البترول والغاز تشكل جزءا كبيراً من إيرادات الحكومة والدخل القومي لإيران. وشملت العقوبات قيودا شديدة على صادرات النفط والغاز الإيرانية والاستثمار فيهما، إضافة إلى تجميد أرصدة إيرانية في الدول الغربية وطرد البنوك الإيرانية من أوروبا عام 2012 وحرمان إيران من شبكة المبادلات المالية SWIFT، التي من خلالها تتم عمليات المدفوعات بين الدول. لا بل وصل الأمر إلى أن حرمت الدول الأوروبية إيران من طباعة نقودها وعملتها المعدنية في أوروبا. هذا ناهيك عن حرمان إيران من استيراد أية مواد يمكن استخدامها في برنامجها النووي. هذه العقوبات وغيرها كثير أدت إلى ما يشبه حالة اختناق للاقتصاد الإيراني.
لقد نص الاتفاق على تقديم إيران تنازلات عدة لعل أهمها أن تتعهد إيران بعدم تخصيب اليورانيوم بأكثر من 5 في المائة، كما تعهدت بأن تحول 50 في المائة من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة إلى أكاسيد لا يمكن استخدامها لسلاح نووي والباقي إلى يورانيوم مخصب بنسبة 5 في المائة، إضافة إلى قيود أخرى على إنشاء أجهزة جديدة وتشغيل أخرى قائمة. لكن التنازل الأهم هو قبول إيران بقيام منظمة الطاقة النووية بتركيب كاميرات لغرض الرقابة اليومية. وفي المقابل حصلت إيران على حقها في الاحتفاظ ببرنامج نووي سلمي خاضع لاتفاقية حظر انتشار السلاح النووي. أي أن إيران ليست مطالبة بموجب الاتفاق بالتفكيك الكامل لبرنامجها النووي كما تطالب بذلك إسرائيل. لكن القيود الواردة على البرنامج النووي لإيران يمكن أن تحوله إلى برنامج ذي قيمة رمزية تحفظ ماء وجه الساسة الإيرانيين، دون أن يشكل الخطر الذي يخشاه خصوم إيران. كا حصلت إيران على تخفيف للعقوبات الاقتصادية بما يراوح بين ستة وسبعة مليارات دولار، تشمل إيرادات بترولية سابقة مجمدة في البنوك الغربية بقيمة 4,2 مليار، إضافة إلى استيراد مواد لصناعة السيارات الإيرانية وتصدير الذهب وبعض المواد البتروكيماوية والسماح بالتحويلات المالية للطلاب الإيرانيين في الخارج. وفي المقابل فإن التنازلات التي قدمتها إيران تمثل مكاسب للدول الغربية من الاتفاق. إلا أن التنازل الأهم هو أن هذه التنازلات بمجموعها تمثل اختراقاً للسيادة الوطنية الإيرانية. ولا شك في أن هذا الاختراق سيمثل عنصراً مهما في مفاوضات الحل الدائم.
ولكن ما حظوظ الاتفاق المؤقت على الصمود؟ وما احتمال التوصل إلى اتفاق دائم؟ لقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق خلال أقل من ستة أشهر من انتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني، ولا شك أن سرعة هذه الجولة من المفاوضات تعكس تلهف الفريقين للتوصل إلى اتفاق، فلا إيران قادرة على تحمل العقوبات الاقتصادية لفترة أطول، ولا الغرب وإسرائيل قادران على حسم الخلاف عسكرياً. وإذا كان الأمر كذلك، ترى ما احتمالات التوصل إلى اتفاق دائم؟ بادئ ذي بدء ينص الاتفاق المؤقت في مقدمته على ''أن الاتفاق الشامل يجب أن يشكل وحدة متكاملة، حيث لا يمكن اعتبار أي شيء متفقا عليه ما لم يتم الاتفاق على كل شيء''، وهذا الشرط سيشكل عقبة كؤودا في مفاوضات الاتفاق النهائي. ولا شك أن أي اتفاق لا بد أن يكون انعاكساً لميزان القوى في صراع الإرادات. والعوامل التي أدت إلى التوصل إلى اتفاق مؤقت، التي أشرنا إليها آنفاً، لا بد أن تكون حاضرة في مفاوضات الاتفاق الدائم، لكنها لن تكون الوحيدة. فأهداف إيران من الاتفاق تنحصر في هدفين رئيسين أولهما: الرفع الكامل والنهائي للعقوبات الاقتصادية. والآخر: الاحتفاظ بدرجة ما من برنامج نووي يمكنها من تحقيق ما تصبو إلى تحقيقه من أهداف على المدى البعيد، سواء كانت هذه الأهداف مدنية بحتة، أو كانت ذات بعد عسكري واستراتيجي، إن استطاعت تحقيق ذلك. ولذلك فإن إيران ستحاول الاحتفاظ بأقصى ما تسمح به الظروف الحالية من برنامجها النووي. وعلى الطرف المقابل فإن المفاوضين الغربيين سيحاولون تقليم الأظافر النووية الإيرانية لأقصى درجة. والتأكد من أن إيران لن تستطيع أن تحول برنامجها النووي إلى برنامج ذي إمكانات عسكرية. لذلك فإن موضوع التفاوض الرئيس لن يكون الجانب الاقتصادي، إنما الحد الأدنى المقبول من برنامج نووي لدى طرف والحد الأقصى الذى يقبله الطرف الآخر. كما أن الضمانات التي يمكن أن يتفق عليها الطرفان ستكون عنصراً مهما من عناصر الاتفاق الدائم.
لقد قيل إن قبول إيران شرط الرقابة اليومية على برنامجها النووي يشكل ضماناً بفترة إنذار مبكر لبضعة أسابيع فيما إذا حاولت إيران كسر الاتفاق. لكن السؤال الذي يبرز هنا هو: ما الذي تستطيع الدول الغربية فعله خلال هذه الأسابيع أو بعدها؟ لا شك أن الخيار العسكري مستبعد على الصعيد العملي حتى الآن. إذ تتوافر إيران على قوة ردع عسكرية تقليدية مهمة، لولاها لما ترددت إسرائيل والدول الغربية عن مهاجمة إيران. فإيران ليست ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ولا العراق بعد غزو الكويت. ذلك أنه لا أحد في هذه الدول مستعد لتحمل نتائج المواجهة العسكرية حتى ولو انتهت بالانتصار الكامل على إيران. وتوازن الردع هذا يمكن أن يطيل أمد المفاوضات من ناحية، إلا أن ضعف إيران الاقتصادي يمكن أن يسرع بها من ناحية أخرى. ولكن العامل الاقتصادي لا يضغط على إيران وحدها. إذ إن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدول الغربية منذ خمس سنوات طالت بأكثر مما توقع لها خبراء السياسة وعلماء الاقتصاد. لذلك فإن الإمكانات الكامنة في الاقتصاد الإيراني، استثماراً فيه وتصديراً إليه، يمكن أن تكون ورقة تساوم بها إيران. إلا أنه من المستبعد أن تكون هذه الورقة عامل انشقاق في الصف الغربي إذا أرادت إيران الاستعجال في التوصل إلى اتفاق دائم. أي أن على إيران أن تعاني مزيدا من الآلام الاقتصادية إذا أرادت أن تستخدم ورقتها الاقتصادية بشكل فاعل. لكن إذا تم التوصل إلى اتفاق دائم فإن العامل الاقتصادي يمكن أن يتسبب في تشقق التحالف الغربي إذا أرادت إيران خرق الاتفاق. إذ إنه لن يكون من السهل على دول التحالف إعادة العمل بعقوبات مجلس الأمن إلا بموافقة روسيا والصين. كما أنه سيكون من الصعب إعادة العمل بالعقوبات التي انفردت بها أمريكا وأوروبا إذا دخلت هذه الأخيرة في عقود استثمارية في إيران تأخذ زمناً طويلاً في التنفيذ وزمناً أطول في استعادة التكاليف وجني الأرباح. ولذلك فإنه حتى في حالة التوصل إلى اتفاق دائم، فإن الاتفاق يمكن أن ينطوي على عناصر انهياره!
إن الدرس المهم الذي يجب أن تتعلمه إيران من هذه التجربة المريرة هو أنها لن تستطيع أن تبحر في عالم السياسة الدولية وحدها مهما بلغت قواها الذاتية، وأن رصيداً من علاقات حسن الجوار يمكن أن يشكل عامل قوة مهما لها ولغيرها. وحصدت إيران بعض ثمرات هذه السياسة في التسعينيات من القرن الماضي، حينما تصدت السعودية لنيات أمريكا بمهاجمة إيران عقب سقوط طائرة شركة تي . دبليو. إيه في المحيط الأطلسي. وأدركت إيران أن لها جاراً مهما يمكن أن يسعفها وقت الملمات. لكن الأمور ساءت – مع الأسف الشديد - حينما تولى رئاسة إيران رجل لم يكن للدبلوماسية مكان في قاموسه، هل يمكن أن تتحسن علاقات إيران بجيرانها مرة أخرى؟ نعم إذا حسنت النيات وصدقت الأفعال أقوال أصحابها.