أزمة «باركليز» .. أرباحه تتناقص ومكافآته تزيد
يندر أن تتصفح صحيفة بريطانية ولا تجد فيها خبراً يوميا عن بنك "باركليز"، والتي تمتد من تراجع أرباح البنك إلى منح مكافآت وحوافز ضخمة لكبار المديرين رغم فشلهم وتقلص الأرباح المحققة عاما بعد آخر.
ولا تقف الأخبار السيئة والمثيرة للجدل عند هذا الحد، بل تمتد إلى عزم البنك إنهاء وظائف الآلاف من العاملين هذا العام، بعد أن أنهى وظائف آلاف آخرين في العام الماضي، وتستمر الأنباء السيئة لتطال الجرائم بعد أن تعرضت البيانات الخاصة بآلاف العملاء في البنك للسرقة، وهي أنباء يؤشر محتواها إلى الوضع الصعب، الذي يمر به أحد أعرق البنوك البريطانية، وتطرح علامات استفهام حول المستقبل.
بنك "باركليز" رمز من الرموز الأساسية للنظام المصرفي البريطاني والعالمي، فقد أسس قبل 323 عاما تقريباً، وهو ثالث أكبر البنوك البريطانية، وقد احتلت مجموعة "باركليز" المرتبة السابعة في قائمة أكبر 50 بنكا في العالم خلال كانون الأول (ديسمبر) 2011، ويقدر إجمالي أصوله بـ 2.42 تريليون دولار تقريبا، ويمتد نشاطه في 50 دولة حول العالم، ويبلغ عدد عملائه 48 مليون عميل يخدمهم 140 ألف موظف.
ووفقا لأي معيار أو مقياس اقتصادي أو مالي فبنك "باركليز" يعتبر أحد أباطرة صناعة المال ليس في بريطانيا فحسب، بل على المستوى العالمي، فلماذا إذا المصاعب التي يواجهها الآن؟ وهل يمكنه التغلب عليها أم أنها ستؤدي إلى مزيد من الضغوط عليه؟ وهل يمكن أن تدفع إلى انصراف حاملي الأسهم عنه، ما يسفر عن انهيار هذا الصرح المالي في يوم من الأيام؟ أسئلة تشغل أذهان العديد من رجال المال والصحافة البريطانية، ولكنها بلا شك تشغل أذهان أصحاب الأسهم أكثر.
أحد كبار المسؤولين في البنك أجاب عن تساؤلات "الاقتصادية" بهذا الشأن، رافضا الإفصاح عن اسمه بالقول "المشكلة التي نواجهها الآن هي نتاج سنوات متراكمة من السياسات الخطأ التي تم التغطية عليها من كبار المديرين ورؤساء مجالس الإدارة، والجميع كان يعلم أن البنك يسير في الطريق الخطأ ولم يتكلم أحد لأن الرواتب والحوافز والمكافآت كانت ضخمة للغاية. كانت أقرب ما تكون لرشوة لالتزام الصمت.
وأضاف المسؤول، أن الأمر باختصار هو النهج أو الثقافة السائدة في البنك، فهذه الثقافة هي ما تكلف البنك سلسلة متتالية من الفضائح والمشاكل والانتقادات الإعلامية، والمشكلة باختصار أن البنك يريد تحقيق الأرباح على حساب القيم البنكية التي تلتزم الشفافية والمحاسبة، ومنذ التسعينيات عملت إدارته على تحويله من بنك محلي إلى بنك عالمي بشكل سريع دون أن يكون ذلك على أسس وقيم واضحة باستثناء الربح بأي وسيلة.
أولى مشاكل "باركليز" بدأت قبل أعوام عندما افتضح أمر تلاعبه مع آخرين فيما يعرف بفضيحة " ليبور" وهو سعر الفائدة على الإقراض بين البنوك، وكذلك الـ "يورو ليبور" وهو سعر الفائدة على الإقراض بين البنوك الأوروبية، تلك الفضيحة التي هزت عروش البنوك البريطانية والأوروبية، ولكن بالنسبة لباركليز وباعتباره أحد أبرز المتورطين في تلك الفضيحة، لم يقف الأمر عند تغريمه 290 مليون جنيه استرليني، بل تجاوز ذلك للإطاحة بمجمل إدارة البنك، وتعيين إدارة جديدة برئاسة أنتوني جنكنز الذي حمل معه استراتيجية جديدة تدعو للعودة إلى القيم التقليدية للبنك، والأهم التعهد بالقيام بخفض ضخم في النفقات وزيادة الأرباح، لكن سرعان ما اصطدمت تلك الاستراتيجية بالواقع.
الواقع الذي اصطدمت به إدارة جنكنز تمثل في تراجع الأرباح، والأكثر إثارة للجدل هي مجموعة المكافآت والحوافز التي منحها لكبار المديرين أخيراً باعتبارها عرفاً من أعراف البنوك البريطانية والعالمية.
ولـ "الاقتصادية" يقول مارك هوماند المحلل المالي البريطاني إن استراتيجية جنكنز هي استعادة الثقة المفقودة للعملاء في البنك، ويتطلب هذا تغييرات جذرية، مقارنة بالنهج السابق لإدارة الرئيس التنفيذي بوب دايموند.
وأضاف أن جنكنز أنهى خدمة آلاف العاملين في البنك خلال العام الماضي، ويقدر عدد هؤلاء بنحو 7650 موظفا، بينما سيتم إنهاء خدمة آلاف آخرين هذا العام يتراوحون بين 10-12 ألف شخص، وفي هذا الجانب استهدف جنكنز تقليص النفقات، ويبدو للوهلة الأولى أنه نجح، لكن بالنظر إلى الصورة في مجملها فإنه يمكننا القول أن السياسات القديمة لا تزال كما هي، وأعني الربح والربح فقط بعيدا عن القيم البنكية.
وأشار هوماند إلى أن السلطات الأمريكية المشرفة على المصارف أيدت غرامة مقترحة على بنك باركليز بنحو 435 مليون جنيه استرليني لتلاعبه في أسعار الكهرباء في عدد من الولايات الأمريكية، وها هي فضيحة أخرى في الأفق حول التلاعب في أسعار الصرف بين العملات، وإذا ثبت تورط البنك فيها فإننا أمام فضيحة دولية بامتياز، وبالطبع غرامات ضخمة للغاية ستؤثر على معدلات أرباح البنك، ومن ثم قيمة أسهمه في البورصات العالمية، وهو ما يعد ضربة موجعة ومؤثرة لـ "باركليز".
الوضع إذاً يزداد صعوبة، خاصة مع مواصلة الصحافة البريطانية انتقاد إدارة البنك خلال اليومين الماضيين، فقرار تقليص أعداد العاملين تواكب مع تراجع أرباح البنك خلال العام الماضي، حيث تراجعت الأرباح المعدلة قبل الضرائب لعام 2013 بنحو الثلث، مقارنة بعام 2012 لتصل إلى 5.2 مليار استرليني.
وكان يمكن لأصحاب الأسهم تقبل الوضع من منطلق أن الخسائر ناجمة عن جهود إعادة الهيكلة التي انطلقت العام الماضي، وشملت الانسحاب من بعض القطاعات والغرامات المالية التي دفعها البنك، ولكن انتقادات الإعلام وغضب حاملي الأسهم جاء من أن تراجع أرباح البنك لم يمنع إداراته من دفع مكافآت للعاملين، بل والأكثر مدعاة للغضب هو زيادة معدل المكافآت والحوافز، مقارنة بعام 2012 بنسبة 10 في المائة لتصل إلى 2.38 مليار جنيه استرليني، وزيادة المكافآت الخاصة للقسم الاستثماري في البنك بنحو 13 في المائة لتصل إلى 1.6 مليار استرليني رغم تراجع أرباح هذا القسم بنحو مليار استرليني.
الضجة التي أثارها هذا الوضع دفعت بـ "أنتوني جنكنز" الرئيس التنفيذي للبنك إلى تخليه عن نصيبه في المكافآت للعام الثاني على التوالي، وتقدر مكافأة جنكنز بنحو 2.75 مليون استرليني، لكن هذا القرار لم يعفه من سهام النقد الحادة، ما دفعه إلى السعي لتبرير توزيع مكافآت سخية على العاملين رغم تراجع الأرباح بالقول "إننا في باركليز نؤمن بأهمية المكافأة مقابل الأداء والمكافأة بطريقة تنافسية".
ولـ "الاقتصادية" تشير الدكتورة ليز باركر أستاذة مادة النقود والبنوك في جامعة وارويك، إلى أن ما يريد أن يقوله جنكنز هو أننا في باركليز لكي نحافظ على العناصر المميزة لدينا، ولكي نستطيع المنافسة مع جي بي مورجان، وجولد مان ساش، لا بد من بذل تلك الحوافز، لربما يفهم هذا عندما يكون الأداء مرتفعا ومميزا، ولكننا أمام تراجع في الأرباح من قبل فريق إداري لم يحقق النجاح المطلوب، ولهذا فإنه من المنطقي للغاية أن تتراجع أسهم البنك في البورصة، وتنخفض معنويات المستثمرين.
وينتقد عدد من العاملين في المجال البنكي توزيع بنك "باركليز" حوافز ومكافآت على كبار المصرفيين الاستثماريين فيه بحيث كان المتوسط نحو 60 ألف جنيه استرليني في الوقت الذي كان أداؤهم من السوء بحيث أدى لتراجع الأرباح بنحو مليار جنيه استرليني.
وعلى الرغم من أن البنك حاول تبرير الموقف بأن الزيادة في قيمة الحوافز والمكافآت للعام الماضي لم تزد إلا بنحو 210 ملايين استرليني عن عام 2012، وأنهم مضطرون لذلك لضمان الحفاظ على العناصر المميزة في البنك والقادرة على تحقيق أرباح في الأجل الطويل لصالح أصحاب الأسهم، إلا أن هذه التبريرات لم تجد أصداء تذكر لدى المعنيين بالشأن الاقتصادي.
ويؤكد ميتشل كولوريدج الصحفي المختص بالشؤون البنكية لـ "الاقتصادية"، أن جنكنز قام بانتهاكين يمكن لأصحاب الأسهم مسائلته عليهما، الأول أن العرف السائد أن المكافآت والحوافز ليست مطلقة، بل إنها تتعدل وفقا لما يسمى بالمناخ المالي، فهي تزيد عندما تتحقق أرباح وتتراجع مع تراجعها، ثانيا جنكنز خالف تعهداته بأن عوائد العاملين ستتراجع من 39 في المائة عندما تسلم إدارة البنك إلى 35 في المائة، ولكن الواقع أنها تمثل الآن 43 في المائة، وفقا لتصريحاته.
ولكن ربما يخفف من وطأة الضغط الإعلامي الراهن ضد بنك باركليز ما أعلنه بأن التخفيضات في عدد العاملين ستطال نحو 820 وظيفة على مستوى الإدارة العليا من بينها 220 مديرا عاما و600 مدير أغلبهم في قسم الاستثمار المصرفي، كما يعتزم البنك إغلاق ربع فروعه في المملكة المتحدة، وتشجيع العملاء على إتمام المعاملات المصرفية عبر الشبكة العنكبوتية على أمل خفض النفقات بما يزيد على مليار جنيه استرليني هذا العام. ويبدو أن مشاكل المصرف البريطاني الشهير لن تقف عند حدود الأرباح وتراجعها أو الحوافز ومشروعيتها، بل إنها تمتد إلى ما اعتبره البنك أعمالاً إجرامية، التي يمكن أن تؤثر على ثقة العملاء فيه، فقد نشرت إحدى الصحف البريطانية تقريرا بأن البيانات الخاصة بـ 27 ألف عميل من عملاء "باركليز" تم سرقتها وبيعها، وأن البيانات تشمل معلومات حساسة تتضمن دخل العملاء وبيناتهم الصحية وكلمة السر الخاصة بحساباتهم، وأعلن البنك أنه أخطر عملاءه وبدأ تحقيقا في الحادث. وعلى الرغم من ذلك، فإن البعض اعتبر أن هذا العمل الإجرامي يؤشر على أن التدابير الأمنية للحفاظ على سرية بيانات العملاء في حاجة إلى إعادة النظر لسد الثغرات الراهنة، وأن المشكلة الأكبر أمام البنك لا تزال شعور العديد من أصحاب الأسهم بأن البنك يدار لصالح العاملين فيه، خاصة كبار المديرين وليس لصالح الملاك الحقيقيين، وهم حاملو الأسهم والمودعون.