البحث العلمي لتطوير الصناعة التحويلية .. (غزال 1)

الحرب الإعلامية التي يشنها البعض على مشروع غزال (1) كأول مبادرة لتصنيع سيارة وطنية تثير الدهشة والاستغراب، وربما الاستنكار. وكأنما هؤلاء لم يرغبوا أو لم يستطيعوا استيعاب فكرة أن بلداً مثل السعودية بإمكانها أن تصنع سيارة! البعض بلغ به الشك في القدرة الوطنية حداً فاعتقد جازماً أنها كذبة كبرى، وأنها فقط وسيلة للاستهلاك الإعلامي، بل إنهم عابوا على أصحاب المبادرة مسابقتهم الزمن واختصارهم المراحل في تصنيع السيارة، وكأنما لسان حالهم يقول "لنبدأ من حيث بدأ الآخرون وليس من حيث انتهوا"! لكن حقيقة الأمر لا يوجد مبرر منطقي لهذا التهجم الصارخ على الفكرة، وربما أن المستهدف هو صاحب الفكرة وليس الفكرة ذاتها، وفي كلا الحالتين هو محاربة للنجاح والإبداع والتفكير خارج المعتاد والانعتاق من حالة التخلف الصناعي أو الزيف الصناعي. ولا شك أن ما يعتلج في صدور من حاربوا فكرة تصنيع سيارة سعودية، قد أعمى بصائرهم حتى غدوا لا يرون من التحديات والمشكلات في المجتمع وفي الاقتصاد الوطني إلا قضية هذه السيارة وفكرة تصنيعها، فأطلقوا العنان لأقلامهم وتعليقاتهم المنفلتة، منتقصين من قدر الفكرة، ومتسابقين لوأدها في المهد، وكأنما الحديث عن تصنيع سيارة جرم كبير وخيانة عظمى. ما الضرر الذي ستحدثه فكرة تصنيع سيارة؟ وحتى لو تم الافتراض أنها كانت كما يقولون كذبة وتلميعا إعلاميا، ما المفسدة المترتبة على ذلك؟ ولماذا يحشر هؤلاء أنوفهم في هذا الموضوع الذي إن لم ينفع لن يضر، وكأنهم أوصياء على المجتمع والوحيدون الذين تقع عليهم مسؤولية تحديد ما يصلح وما لا يصلح للوطن!
إن الحيادية والموضوعية تقتضي النظر لمشروع غزال (1) على أنه أبعد من محاولة تصنيع مركبة، فهو مبادرة استراتيجية شجاعة لإحداث تغيير في نمط التفكير، وتطوير مجالات التصنيع، وخلق ثقافة جديدة مبنية على مفهوم "نستطيع". أي نحن السعوديون نستطيع اللحاق بالعالم الأول، فإذا كانت المجتمعات الأخرى تستطيع التصنيع.. فنحن نستطيع أيضاً!
والمشروع ينطلق من تحويل الأفكار الإبداعية إلى مشاريع ريادية، وأن تتولى الجامعات الوطنية قيادة جهود التنمية بتوظيف الأبحاث والدراسات في إنتاج سلع وخدمات مبتكرة تضيف قيمة حقيقية للاقتصاد الوطني بدلاً من تخزينها على رفوف المكتبات ليعلوها الغبار وتكون نسياً منسياً. إن تحويل الأفكار والأبحاث إلى منتجات قابلة للتسويق، فذلك يصب في اتجاه تطوير الخبرة التراكمية وبناء اقتصاد المعرفة، وتعزيز موقع الاقتصاد الوطني في المنافسة العالمية. إذاً، لماذا كل هذا الهجوم الإعلامي على المشروع؟ هل يعقل أن تكون فكرة تصنيع السيارة سابقة لأوانها؛ ومن ثم صعب على البعض استيعابها؟ أم أن الفكرة جاءت متأخرةً، ورأى هؤلاء أننا في مرحلة تنموية لا تؤهلنا للقيام بذلك؟ أم هل جاءت الفكرة مواتية لوقتها فكانت فكرة رائعة لفتت الأنظار وجعلتنا نفيق من غيبوبتنا، ودفعتنا خارج منطقة الراحة؛ فأثارت حفيظة أعداء النجاح الذين تلبسهم شعور أنهم أصبحوا في آخر الصف؟ هذه تساؤلات مطروحة لمعرفة دافع أولئك الذين قاوموا الفكرة وحاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يفشلوا التجربة. إنه التفكير السلبي الذي يرى أن تحقيق النجاح يأتي عن طريق إفشال الآخرين؛ وبالتالي لا يمكن أن يتحمل أصحاب هذا التفكير إنجازات الآخرين لأنها تعني بالنسبة لهم الفشل!
إن المتمعن في الاقتصاد الوطني يجد أن هناك قضايا ملحة وعلى درجة كبيرة من الأهمية، كما أن هناك سياسات وقرارات خاطئة لأجهزة حكومية، لها تداعيات سلبية حتى يومنا هذا، وربما استمرت ردحاً من الزمان، ولكن لا أحد يجرؤ على الحديث عنها. بل إن ما لا يتم عمله وتطويره وإبقاء الأمور على وضعها دون تغيير قد يكون أهم مما يتم تطويره، لأن الأول لم يدخل دائرة الإدراك والاعتراف بأهميته؛ وبالتالي يبقى غامضاً بتداعيات تؤثر سلباً دون أن نشعر. فكيف نغض الطرف عما يفترض القيام به، بينما تكتب مقالات لاذعة هي أقرب للانتقام من الانتقاد البناء لمبادرات شجاعة وأفكار جريئة لم تدر بخلد الآخرين. هل جزاء المبادرين معاقبتهم على التفكير الاستباقي؟ هل قدر المبدعين أن يبقوا وحيدين في القمة؟ هل على الجسورين تقدم الصفوف ليتلقوا سهام المتحجرين واتهامات المتقاعسين والمتفرجين؟ هل هي حالة من التشفي والانتقام الشخصي لأن أولئك الناجحين سبقوهم إلى الفضل والأفضلية؟ إن ردود أفعالهم العنيفة والمتشنجة تشير إلى ذلك! إنهم قوم نفعيون إذا أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطوا سخطوا. لقد كانوا خارج دائرة الاهتمام ولم يلق أحد لهم بالاً فزادهم ذلك جهالة وحنقاً فارتفعت أصواتهم النشاز في محاولة يائسة للفت الانتباه وجذب الأضواء لأنهم ظاهرة صوتية ليس أكثر. وعندما يتلبس المرء تصور أنه الأفضل، وأن غيره الأدنى، يرى الآخرين بنظرة دونية ويحجبه الكبر عن رؤية الأشياء على حقيقتها؛ فيتخبط في ظلمة النفس ويدور في فلك الأنانية الضيق ليعميه ذلك عن رؤية الحقيقة وقول الحق. لقد مللنا هذا الحديث السلبي عن غزال (1) واجتراره المرة تلو الأخرى. أما آن لهؤلاء أن يعودوا لرشدهم، وأن يحكموا عقولهم وضمائرهم، ويقدموا الوطن على أنفسهم ويقولوا الحق؟ فها هي معظم المصانع الاستهلاكية تملأ البلد، وتعج بالعمالة الأجنبية الرخيصة والمواد المصنعة المستوردة التي يتم فقط خلطها أو تركيبها، ومن ثم يكتب عليها "صُنع في السعودية"؛ لنتوهم أننا بلدٌ مصنعُ؛ فنستكين ونبقى نراوح في المرحلة التنموية ذاتها. وهكذا نبني مصانع تتواءم مع ظروف وإمكانيات العمالة الأجنبية، وكأنما أنشأناها لنعالج مشكلة البطالة في بلادهم وتنمية اقتصاديات أوطانهم، فهذه مليارات الريالات تتسرب خارج الاقتصاد الوطني دون قيمة مضافة أو إنتاج مستدام. من أجل ذلك كانت المبادرة نحو بذر فكرة التصنيع التحويلي من خلال إطلاق مشروع غزال (1) ليكون بمثابة علامة مضيئة تقول إن علينا البدء في التصنيع من خلال توظيف البحوث والدراسات الجامعية. فإن فشل المشروع فهو في التنفيذ وليس في الفكرة. وعلى أصحاب القرار إعادة قراءة المشروع ليس في تنفيذه بطريقة مختلفة وحسب، ولكن في خلق نظام صناعي مبني على إسهام البحوث التطويرية في بناء هرم للصناعات تكون فيه المصانع الصغيرة والمتوسطة روافد للمصانع الضخمة. لابد أن يرتكز النقاش على الأطر الكبيرة والتوجهات العامة التي تقود القرارات الاستثمارية الحكومية والخاصة. أما أن يكون هناك إغراق في الجزئيات فهذا قيد صارم على عملية التنمية يجعلها تراوح مكانها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي