الدوحة.. مأزق «الجغرافيا» وعلاقته بهويتها السياسية

الدوحة.. مأزق «الجغرافيا» وعلاقته بهويتها السياسية
الدوحة.. مأزق «الجغرافيا» وعلاقته بهويتها السياسية
الدوحة.. مأزق «الجغرافيا» وعلاقته بهويتها السياسية

في عام 2006 كان المسافر الذي يجلس بجانب النافذة على متن الطائرة المتجهة لبيروت، وقبل أن تغرق الطائرة في بحيرة من أضواء النيون المشعة في مهبط الطائرات، كان يلمح لوحات إعلانية كبرى عليها عبارة "شكراً قطر" بجانب علمها، مدفوعة من قبل حزب الله اللبناني، الذي صُنف إرهابياً لاحقاً.
تلك كانت الفترة، التي عقبت الهجمات الإسرائيلية على لبنان، حيث قدمت الدوحة الدعم السخي لإعمار الجنوب وأجزاء من بيروت (الضاحية)، كانت الحرب التي عرفت باسم "حرب تموز" رداً على خطف حزب الله جنديين إسرائيليين، تلك العملية التي وصفتها الرياض في حينه بأنها "مغامرة غير محسوبة العواقب". وانتهت بتدمير كبير للبنى التحتية في لبنان.
كان تبادل نظرات "الغزل" السياسي في قمة ذروته بين الدوحة وحزب الله، فبينما كانت قناة "الجزيرة"، الذراع الإعلامية للسياسة القطرية الخارجية، تمجد المقاومة وتصف قتلاها بـ "شهداء الأمة". كان الموقع الرسمي لـ "المقاومة الإسلامية في لبنان" يذكر أن "الدوحة من خلال برنامج قطر لإعادة إعمار وتأهيل جنوب لبنان، تعهدت بدفع 300 مليون دولار موجهة نحو أربعة مشاريع إعادة إعمار، بما في ذلك إنشاء أربع مدن جديدة من بينها (بنت جبيل)".
إلى هنا انتهى الاقتباس الخبري من موقع "حزب الله" الذي أورده الكاتب الإماراتي سلطان القاسمي في مقالته باللغة الإنجليزية المعنونة "قطر وحزب الله: لا مزيد من الصداقة بعد اليوم"، مع ملاحظة لافتة، وهي أن الخبر اختفى من مواقع الإنترنت ولا يمكن الوصول إليه إلا من خلال "النسخة المخبأة" في محركات البحث.

#2#

#3#

مفترق الطرق الحقيقي بين الدوحة والحزب ظهر في سورية، في موقفين متضادين سياسياً، حيث وقف حزب الله بكل عتاده ومقاتليه مع نظام بشار الأسد، الذي شن هجماته مع حلفائه (حزب الله، إيران، روسيا)، حيث لقي أكثر من 140 ألفا مصرعهم، فيما وقفت قطر مع فصائل سياسية مناوئة للنظام السوري، حتى أن تقارير دولية تتحدث عن دعمها المنتظم لتنظيم القاعدة ليس في سورية فقط، بل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
قبل عشرة أيام من انتهاء العام المنصرم، صرح وزير الخزانة الأمريكية بأن القطري عبد الرحمن النعيمي، رئيس منظمة الكرامة لحقوق الإنسان، التي تتخذ من جنيف مقراً لها، متهم بتقديم "دعم مالي ومادي، وإجراء اتصالات للقاعدة والتابعين لها في سورية والعراق والصومال واليمن لأكثر من عشر سنوات".
وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في حينه، نقلا عن مسؤولين أمريكيين، "إن هذا الرجل كان أيضا يعمل سرا، باعتباره الممول لتنظيم القاعدة، بتحويل ملايين الدولارات إلى الشركات التابعة للمجموعة "الإرهابية" في سورية والعراق، إلى جانب قيادته حملات في أوروبا لمزيد من الحريات للمسلمين". النعيمي نفى التهم لاحقاً ووصفها بـ "المهزلة".
وأخيراً بالطبع، دعمها غير المحدود لجماعة الإخوان المسلمين، من تونس، مروراً بمصر وليبيا واليمن وسورية وإخوان الخليج سياسياً وإعلامياً، ما صنع تجاه الدوحة حالات غضب شعبي غير مسبوق من المحيط إلى الخليج، خصوصاً دول "الربيع" التي باتت تسعى بشدة نحو الاستقرار بعد حالات الانفلات الأمني والتهديدات الحقيقية للسلم الاجتماعي في هذه الدول.
فكيف يمكن قراءة الخريطة السياسية للدوحة في الشرق الأوسط، وعلاقة "اختناقها" الجغرافي بسلوكها السياسي في المنطقة؟ هذه "الجغرافيا" محدودة المساحة بحدود برية مشتركة مع السعودية (الشقيقة) الكبرى.
مأزق الجغرافيا السياسية القطري

يرى متعقبو تاريخ النظرية السياسية، أن "الجغرافيا" تلعب دوراً بارزاً في السلوك السياسي للدول، إذ يرى مفكرو هذا المجال أنه لا يمكن تفسير وتحليل علاقة دولة بدولة أخرى دون الرجوع إلى البيئة الجغرافية لكل منهما.
قطر ذات التعداد السكاني الذي يقدره خبراء بنحو 300 ألف قطري في أقصى حد، بدت في العقد الأخير أكثر توثباً نحو خلق حدود جغرافية أرحب من تلك المختنقة التي تخضعها لها ظروف الطبيعة.
دروب الدوحة المفروشة بالبنادق وهي تصنع شخصيتها "السياسية" الجديدة بدت بعد أكثر من عقد في مأزق حقيقي، ناتج عن دعمها حركات "الإسلام السياسي" المتطرفة بشقيها السني والشيعي، حتى جاء وقت الذروة في ما اصطلح عليه "الربيع العربي"، اللحظة التي ظنت فيها الدوحة أنها تكسب استحقاقات كثيرة فيما كانت تخسر أشياء أكثر. ولكن هل كان لجغرافيتها السياسية أن تسمح لها بدور أكبر وتحمي مشروعها من الانهيار؟
يجيب الدكتور معتز عبد الفتاح، الكاتب وأستاذ العلوم السياسية "قطر ترى نفسها من الصغر لدرجة أنها لا ترتاح لجوار يحوي دولا إقليمية كبرى، وبالتالي تزول هذه الضغوط، بزوال هذه الدول أو زعزعتها. فصغر مساحتها يجعلها تبدو كما لو أنها مرهونة في بقائها بقرارات ليست هي التي تتخذها. فالبنسبة لمنطقة الخليج قطر دولة مغلقة، ومحدودة برياً بجارها السعودي فقط. ما يجعلها تحت وطاة الانكشاف الاستراتيجي الدائم".
ويضيف عبد الفتاح في حديثه لـ "الإقتصادية السياسية": "قلق الانكشاف الاستراتيجي في الدوحة، توازى مع تصاعده.. وفرة مالية تغري باستخدامها، لكن ظلت الإشكالية عدم توازن هذه الوفرة الاقتصادية مع القيمة الجغرافية المتواضعة، عوضتها بسياسة خارجية نشطة حتى لو كانت بلا نتائج. قطر ملكت الطموح في ألا تكون مجرد دولة على الخريطة، بل تتجاوز الجغرافيا لتصبح فاعلا دوليا، بالتالي هذا الطموح جعلها ترغب في أن تكون طرفاً في كل صراع في منطقة الشرق الأوسط".
الدوحة من خلال تمددها الخارجي، خلقت ملمحين بارزين. الأول أن علاقاتها الاستراتيجية لم تبنها مع "الكيانات" التي تمثلها الدول بمؤسساتها السيادية، لكنها كانت تلجأ إلى عقد الشراكات السياسية مع أحزاب المعارضة بالعموم داخل هذه الكيانات، وتخص بالتقوية حركات "الإسلام السياسي"، مع غطاء كبير من قبل قناة "الجزيرة"، الذراع الإعلامية للخارجية القطرية. فدعمت حزب الله في داخل لبنان، ودعمت الإخوان بشراسة في كل من مصر، تونس، ليبيا، اليمن، الكويت، سورية، فضلاً عن دعم أقل إكتراثاً ببقايا الحركات العروبية واليسارية الكلاسيكية ليحافظوا على حالة الاصطفاف التي يحتاج إليها "الإسلام السياسي" في أثناء استخدامه الرافعة القطرية، بل حتى علاقة الدوحة بأنقرة ليست وثيقة الصلة بقدر ما هي مرتبطة بشخص رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، النموذج "الحلم" للإسلام السياسي، المتهم في قضايا فساد متراكمة في المحاكم التركية الآن.
الاستثناء الوحيد في هذا السياق، كان عقد الشراكة "الدفاعية" مع طهران في عام 2010، وهو استثناء مفهوم تفرضه أيضاً الجغرافيا السياسية، فلا يمكن أن تتقدم للأمام من الضفة الشرقية، دون تحالفات دفاعية مع "كيانات" تتشارك أجندتك السياسية أو بعضها على الأقل.
فالتقارير الدولية الحديثة حسمت أمر علاقة قيادات تنظيم القاعدة الإرهابي بطهران، بل بات المجتمع الدولي متيقناً من أن تنظيم القاعدة يوجه الكثير من العمليات من داخل إيران. لكن المفاجأة كانت لـ "البعض" تورط قطريين في تمويل القاعدة كما في قصة عبد الرحمن النعيمي، حتى أن "واشنطن بوست" قالت في قصتها المتعلقة بهذه الاتهامات "وقت يتزايد فيه قلق الولايات المتحدة حول دور الأفراد والمؤسسات الخيرية القطرية في دعم العناصر المتطرفة داخل تحالف المعارضة في سورية". والحال أن النعيمي، لم يقتصر دوره على تمويل أذرع القاعدة العسكرية المختلفة، فهو يدير منظمة "الكرامة" غير الحكومية التي تأسست في 2004، التي تركز على قضايا حقوق الإنسان وتتعاون من كثب مع منظمات دولية معنية بهذا الشأن، منها "هيومان رايتس ووتش".
وتعمل المنظمة على رعاية الجماعات المعارضة للحكومات في دول الخليج تحت مبحث نقدي قائم على انتهاك "حقوق الإنسان". حتى أن النعيمي طالب أبو ظبي بالإفراج عن موقوفين متهمين بتأسيس حزب سياسي محظور في الإمارات.
وبالعودة لعبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية يشرح هذا السلوك السياسي، بقوله "الدولة كبناء هي نموذج مغلق، يحمل بتركيبته البنوية أعباء ومسؤوليات الأمن القومي ككيان، لذلك خطواته محسوبة. على عكس الأحزاب السياسية في بنيتها وتركيبتها الهيكلية. لذلك غدت "الكيانات" ما دون الدولة (الأحزاب) شريكا مناسبا للدوحة، كونه لا يوجد عليها قيود الدولة البنيوية. فأمكن للدوحة إيجاد مساحة للتشارك والتقارب معها، ومن ثم استخدامها كورقة ضغط تستطيع أن تعارض بها الجهاز الرسمي، فتلوي ذراع الدولة. أو أن يتحقق رهانها وتصل هذه الأحزاب بالفعل إلى سدة الحكم، وهنا تكون الدوحة ذات قدرات سياسية متضخمة أضعاف حجمها الطبيعي، ومن ثم تبدأ مرحلة جديدة في الدخول في شراكات مع الدولة (الكيان) التي أصبح يديرها الحزب المدعوم من قطر". والحال أن الإنزعاج "العربي" ليس محصوراً في دول الخليج ومصر التي سحبت سفراءها احتجاجاً على تدخل الدوحة في الحراك الداخلي في هذه الدول، بل من سياستها المؤثرة في مستوى الأمن الإقليمي.
فقبل شهر أجرى غسان شربل، رئيس تحرير صحيفة "الحياة" لقاءً مطولاً مع محمود جبريل، رئيس وزراء ليبيا الأسبق. أشار فيه بوضوح إلى الدور القطري في تأزيم المشهد الداخلي ومحاولة فرض إرادتها السياسية على القرار الليبي.
يقول جبريل "الانحياز القطري إلى تيار الإسلام السياسي لم يكن ادعاء، فالثورة الليبية مرت بمواقف كلها تصب في هذا الاتجاه، ويمكن أن أسرد بعضها. منذ الأسابيع الأولى للثورة بدأت ترد بعض الأخبار عن أن هناك لقاءات يعقدها رئيس الأركان القطري مع بعض الشخصيات الليبية المحسوبة على تيار الإسلام السياسي، التي كانت في أفغانستان مثل الأخ عبد الحكيم بلحاج".
ويزيد "كانت البادرة الأولى عندما جاء جلال الدغيلي وزير الدفاع الليبي، وأحضر معه عبد الحكيم بلحاج وضابط استخبارات قطرياً، ووجدناهم دخلوا إلى غرفة العمليات في جربة وحاولوا تقديم الأخ عبد الحكيم بلحاج، من منظور وزير الدفاع الليبي، على أنه هو مَنْ يقود عملية تحرير طرابلس أو عملية انتفاضة طرابلس. الأخ عبد المجيد المليقطة الذي كان يرأس تلك الغرفة، غرفة عمليات تحرير طرابلس، أغلق جهاز الكمبيوتر المحمول وقال لهما: لا، أنا آخذ تعليماتي من رئيس المكتب التنفيذي محمود جبريل، ولم يسمح لهما بالاطلاع على تفاصيل العمليات. تكرر الأمر بعد أن اتفقنا على موعد 14 تموز، وأن هناك أسلحة ستأتي من قطر بناء على طلب من فرنسا، ويدخل بها الثوار وينقلونها إلى طرابلس تمهيداً لانتفاضة طرابلس. وصلت الأسلحة إلى بنغازي فعلاً، ثم اكتشفنا أن هذه الأسلحة سرّبها أحد العناصر في التيار الإسلامي من بنغازي، ونقلها إلى الأخ عبد الحكيم بلحاج في الجبل الغربي، بالتالي تعطلت عملية انتفاضة طرابلس".
تشرح مجلة "فورين بوليس" هذا الحماس الكبير للدوحة في ليبيا في تحليل مطول، لكنها تعود لتشرح مأزق "الجغرافيا" الذي لا يساعد قطر كثيراً.
"السبب الرئيس لهذا التحول الدرامي في السياسة الخارجية التقليدية في قطر لا يكمن داخل أروقة السلطة في قطر، بل في تفاصيل عن الوضع الليبي نفسه. فقطر لديها الخبرة والأدوات للتدخل، ولكن لأنها بلد صغير جغرافيا وعسكريا، في منطقة يسيطر عليها تقليديا من قبل دول ضخمة، فقطر لا تملك العضلات لإدخال نفسها من جانب واحد في أي صراع" ــ بحسب وصف المجلة.
والحال أن القرار السيادي أخيراً من قبل دول الخليج ومصر بسحب السفراء، ترافق مع انهيار إمبراطورية "الحدود الوهمية" التي رسمتها الدوحة لنفسها، قبل أن تعود للانكفاء للداخل، وتجربة ضغوط العزلة السياسية.
لكن انكشاف "وهمية" تلك القدرات العابرة للجغرافيا، جاء بعد أكثر من عشر سنوات من دخول المنطقة في واحدة من أشرس الحروب الطائفية إعلامياً وسياسياً، بل تمويلها جماعات التطرف الديني لزيادة الصراعات المسلحة التي تهدد استقرار المنطقة. ــ بحسب وصف وزارة الخزانة الأمريكية.
فبينما تأتي الإدانة الأمريكية بشكل رسمي لـ "قطريين" مقربين من صنع القرار في الدوحة، لتكشف عن وجود تغذية لإرهاب القاعدة. كانت التقارير البحثية والإعلامية تتحدث عن "أن عدد الهجمات أو النشاطات المرتبطة بأعمال الإرهاب حول العالم ارتفع عام 2012، ورصدت سبعة تنظيمات أساسية مسؤولة عن معظم الهجمات، بينها ستة مرتبطة مباشرة بتنظيم القاعدة".
وبحسب التقرير الذي أعده "الائتلاف الوطني لدراسات الإرهاب ومكافحة النشاطات الإرهابية" الأمريكي، ونشرته بشكل حصري قناة "سي إن إن"، فقد شهد العالم خلال 2012 أكثر من 8500 عملية إرهابية، أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 15500 شخص، وتركزت الهجمات في إفريقيا وآسيا ودول الشرق الأوسط.
وبهذه الحصيلة يكون عدد الهجمات الإرهابية قد ارتفع بواقع 69 في المائة مقارنة بعام 2011، بينما قفز عدد الضحايا بواقع 89 في المائة.
تظل أسئلة الأمن والاستقرار، في الشرق الأوسط تحتل قائمة الأولوية، خصوصاً مع إعادة التموضع التي تنتهجها جماعات العنف المسلح من حزب الله وتفرعاته إلى القاعدة بتفرعاتها، فضلاً عن ممارسات جماعة الإخوان التي صنفها النظام المصري كسلوك "إرهابي"، ما يعيد تكرار الأسئلة لدى المراقبين والباحثين: إذا كان العالم كله يسعى جاهداً إلى تجفيف منابع الإرهاب، فمن يغذيه؟

الأكثر قراءة