بريطانيا تسعى للاستفادة من فوائض خليجية بـ 322 مليار دولار
يوم بعد آخر تتعزز ثقة بريطانيا بأن تحسن أدائها الاقتصادي يوجد أرضية ملائمة للمستثمرين الدوليين، وخاصة من منطقة الخليج العربي للاستثمار في اقتصادها، لكن الحكومة البريطانية تدرك أيضا أن هذا التحسن لن يكون بمفرده عامل جذب للاستثمارات العالمية، وأن عليها اتخاذ المزيد من الإجراءات التشجيعية لجذب الاستثمارات، وخاصة في ظل المنافسة الدولية على الفوائض المالية وخاصة الخليجية.
وفي هذا الإطار تأتي تصريحات مايكل بويد المدير العام لمجموعة الاستثمار في الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار، إذ تكشف تصريحاته أن الحكومة البريطانية وبقدر إدراكها أن المعدلات الراهنة للنمو الاقتصادي تبعث برسالة قوية للمستثمرين الخارجيين أن الاقتصاد البريطاني يحمل آفاقا مشجعة، فإنها تتخذ أيضا تدابير تجعل من المملكة المتحدة واحدة من الوجهات الأساسية لرواد الأعمال والاستثمارات العالمية والخليجية.
فقد أعلن المسؤول البريطاني عن حزمة من الخطط الحكومية ينسجم فيها الاقتصادي مع الدبلوماسي، لتحقيق مراد لندن بأن تكون أحد مراكز الاستقطاب الدولية لرؤوس الأموال الأجنبية، فعلى الجانب الاقتصادي قررت الحكومة البريطانية تخفيض ضريبة الشركات إلى 20 في المائة بحلول عام 2015، لتصبح الأدنى بين الدول الصناعية السبع الكبرى.
كما طرحت مجموعة من البرامج الاستثمارية للشركات وما يعرف بصناديق رأس المال المُخاطر، وجميعها برسوم ضرائبية مخفضة، وتم تقليص المعدل الضريبي لبرنامج "باتنت بوكس" الخاص ببراءات الاختراع المسجلة في المملكة المتحدة، حيث ستخضع الأرباح المستمدة من هذه البراءات لضريبة بنسبة 10 في المائة فقط لمدى الحياة، بدلا من المستوى الحالي المحدد بـ 21 في المائة، وستحظى شركات الأبحاث والتطوير في المجالات التقنية والرقمية المتطورة، بخصومات ضريبية فريدة، ففي مقابل كل جنيه استرليني تقوم هذه الشركات بإنفاقه، يتم خصم 2.25 جنيه من مستحقاتها الضريبية.
وإذا كانت هذه المجموعة من الحوافز الضريبية كفيلة – من وجهة نظر لندن – بتحفيز المستثمرين لضخ استثمارات بالمليارات في شرايين الاقتصاد البريطاني، فإنه تم دعمها بمحفزات دبلوماسية، إذ استحدثت الخارجية البريطانية "تأشيرة رواد الأعمال" مما يسهل على مبتكري الأفكار تأسيس أعمالهم في بريطانيا وفقا لتصريحات مايكل بويد.
وتندرج استراتيجية الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار في استقطاب رجال الأعمال من مختلف أقطار العالم إلى المملكة المتحدة، ومن بينها دول الخليج، ضمن استراتيجية حكومية أشمل تجد في الاستثمارات الدولية وسيلة لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي على الأمد الطويل، فقد صرح مايكل بويد المدير العام لمجموعة الاستثمار في الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار لموقع وزارة الخارجية البريطانية الناطق باللغة العربية قائلا إن استراتيجيتنا لا ترمي لخلق فرص العمل وحسب، بل في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية وإحداث تأثير تراكمي كبير على الاقتصاد ككل.
ويقول جيمس ديفيد الباحث الاقتصادي لـ "الاقتصادية"، إنه يجب أخذ هذه التصريحات في إطار عدد من التطورات الاقتصادية المحلية والدولية، أولها أن النمو الاقتصادي البريطاني هو الأعلى حاليا بين بلدان الاتحاد الأوروبي، وهذا يمثل عامل جذب وتشجيعا للاستثمارات الدولية عامة، والعامل الثاني هو انسحاب الاستثمارات من الأسواق الناشئة جراء الهزة الاقتصادية التي ضربتها أخيرا، ولهذا ترسل لندن رسالة إلى المستثمرين الدوليين وتحديدا في الخليج والصين بأنها قادرة على استيعاب تلك الاستثمارات، والعامل الثالث هو حجم الفوائض المالية الضخمة المتوافرة لدى البلدان الخليجية، التي تبحث الآن عن قنوات استثمار دولية، وإذا كان لا يوجد بيانات قاطعة بشأن إجمالي الفوائض المالية الخليجية، فإن الأرقام التقديرية تشير إلى قرابة ثلاثة ترليونات دولار تمتلك السعودية ما يزيد على ثلثها تقريبا.
وأضاف ديفيد، أن المركز العالمي لدراسات التنمية أعلن في دراسة له أن الفوائض المالية المحققة في الخليج في عام 2012-2013 بلغت 322 مليار دولار، حيث إن الاقتصادات الخليجية غير مهيأة بعد لاستيعاب هذه الفوائض، فإن تراكمها في الداخل يمكن أن يؤدي إلى موجات تضخمية عنيفة، ولهذا فإن الاستثمار في الخارج يمثل حلا إيجابيا في هذا السياق.
وإذ تراهن لندن على أن تلعب الروابط التاريخية الطويلة والعلاقات التجارية المشتركة، بالإضافة لمكانتها كمقر لتأسيس وتداول الأعمال وكوجهة أولى للاستثمارات الأجنبية بشكل عام، والخليجية بشكل خاص، دورا أساسيا في مساعيها لجذب المستثمرين الدوليين، فإن المدير العام لمجموعة الاستثمار في الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار أكد أن الأرقام ترسخ هذه المكانة بالقول، ففي حين انخفضت هذه الاستثمارات بنسبة 18 في المائة في العالم في 2013، شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في المملكة المتحدة بنسبة 22 في المائة للعام نفسه، معتبرا أن تمتع بريطانيا بانفتاحها الدائم للأعمال، وما توفره من خلال موقعها الاستراتيجي القريب من الأسواق العالمية، بالإضافة إلى سهولة عملية الوصول إلى قاعدة كبيرة من العملاء (63 مليون) ومبتكري المنتجات ومورّديها، يؤهلها لتحقيق ما تصبو إليه من زيادة معدلات الاستثمارات الدولية لديها.
وكان المكتب التابع للهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار(UKTI)، والخاص بالاستثمار في مشاريع التجديد(RIO)، قد أعلن أن المملكة المتحدة أعدت خططا لإنجاز مشاريع تجديد استثمارية مفتوحة أمام المستثمرين الخليجيين، تصل قيمتها لأكثر من 100 مليار جنيه استرليني.
وتسعى لندن لاستقطاب بعض المستثمرين الخليجيين في مجموعة من المشاريع التي ستقود لتطوير 27 مليون متر مربع من الأراضي لإنشاء 220 ألف منزل، على أن تبلغ حصة بريطانيا في هذا المشروع 17 مليار جنيه استرليني، وستصل حصة القطاع الخاص البريطاني من إجمالي حصة المملكة المتحدة في المشروع نحو سبعة مليارات استرليني.
وتشمل المشاريع المقترحة على المستثمرين الخليجيين مشروع "تايتنك كوارتر ببلفاست" ويمتد على مساحة 300 فدان بحجم استثمار يصل إلى مليار جنيه استرليني، ويضم المشروع فندقا ومركزا للخدمات المالية، ومركز تجزئة، ومرافق إعلامية وإنتاج أفلام ومكاتب تجارية، كما يضم أيضاً عدداً من الشركات العالمية مثل "سيتي"، و"آي بي إم"، و"ساب".
وتقوم شركة باراماونت حاليا بتنفيذ مشروع ضخم يمتد على مساحة 1.9 فدان في ضواحي لندن، ومن المتوقع استكمال العمل فيه بحلول العام 2018، وسيشتمل المشروع المتعدد الاستخدامات على منتجع ترفيهي سيكون الأكبر في أوروبا، حيث يضم عدة مرافق بما فيها حديقة تضم مركزا خاصا بالعلامة التجارية لشركة باراماونت، وعلاوة على ذلك، سيتضمن المشروع منطقة ترفيهية وحديقة مائية وموقعا للفعاليات بمساحة 300 ألف قدم مربع، وثلاثة فنادق بسعة 5000 غرفة ومسرحا يتسع لـ 1500 شخص.
ولا تزال الفرص الاستثمارية المتاحة في بريطانيا أمام المستثمرين الخليجيين تواجه بعض التحديات، حيث يشير الدكتور خالد الحسني المستشار المالي لعدد من رجال الأعمال العرب في أوروبا لـ "الاقتصادية"، إلى أن الجانب البريطاني يسعى لاستثمارات خليجية بالمليارات، وهذا يعني أن تقوم به الحكومات الخليجية أو الصناديق السيادية أو عدد محدود للغاية من كبار رجال الأعمال الخليجيين، فمكتب الاستثمار البريطاني يشترط أن يلبي أي مشروع من مشاريع التجديد الحد الأدنى من المعايير التي يحددها، التي تشمل أن تكون قيمة التطوير الإجمالية للمشروع 100 مليون جنيه استرليني، وتسليم المشروع في فترة زمنية تراوح بين 12- 18 شهرا، وهذ استثمارات تستبعد قطاعات كبيرة من رجال الأعمال الخليجيين والقطاع الخاص الخليجي. ويعتقد البعض أن التشجيع البريطاني للاستثمارات الخليجية على أراضيها سواء من خلال مشاريع مباشرة أو مشتركة يرمي في حقيقته إلى ما هو أكثر من ذلك، فبريطانيا تدرك تماما أن السعودية سواء على مستوى الدولة أو القطاع الخاص ورجال الأعمال تمتلك قدرات اقتصادية ضخمة يمكنها أن تساعد في دعم الاقتصاد البريطاني بقوة، والاستثمار السعودي سيمنح بريطانيا شهادة ضمان لمزيد من الاستثمارات الخليجية. وعلى الرغم من أهمية ذلك فإن لندن تضع نصب عينيها أيضا المكانة الخاصة للسعودية لدى المسلمين في العالم، وهذا أمر شديد الأهمية من الزاوية الاقتصادية بالنسبة للمملكة المتحدة في المرحلة المقبلة، فبريطانيا تهيء نفسها لأن تصبح المركز الرائد أوروبيا لمنتجات التمويل الإسلامي، فقد نما سوق الاستثمارات الإسلامية منذ عام 2006 بصورة كبيرة، ويتوقع أن يبلغ هذا العام 2.9 تريليون دولار.
وينمو التمويل الإسلامي بشكل أسرع من معدل نمو القطاع المصرفي التقليدي بنسبة 50 في المائة، ولهذا حرص ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني خلال افتتاح فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في لندن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي على التأكيد أن بلاده ستصبح أول دولة خارج العالم الإسلامي تصدر صكوكا تتوافق مع قواعد الاستثمار في الشريعة الإسلامية.
وأشار أحد الدبلوماسيين العرب في لندن رافضا الإفصاح عن هويته، إلى أن هناك مسعى بريطانيا في الفترة الأخيرة لإرضاء البلدان الخليجية المعتدلة، والرياض في مقدمتها، وبعض من هذه الخطوات سياسي والآخر اقتصادي لتعزيز أواصر العلاقات الاستثمارية، والأمر يرتبط في جزء كبير منه بالأهمية التي توليها لندن لمشروع الصكوك الإسلامية التي تنوي إصدارها، فهذه الصكوك يمكن أن تجتذب مئات المليارات للاقتصاد البريطاني، ولندن تدرك أنه بدون دور فاعل للسعودية في إعطاء الصبغة الشرعية لهذا المشروع فإنه لا يمكن تمريره. وتخطط بريطانيا للعمل مع خبراء في مجال التمويل الإسلامي لإنشاء برامج قروض تجارية جديدة متوافقة مع الشريعة الإسلامية، لدعم رجال الأعمال المسلمين في تأسيس شركات لهم في لندن، وأعلنت مجموعة الاستثمار في الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار أنه تم الانتهاء من إعداد آلية حكومية تصبح بمقتضاها قروض تأسيس الأعمال متوافقة مع الشريعة الإسلامية، ويصبح في استطاعة الراغبين في الحصول على تمويل إسلامي الحصول عليه.
لكن هذا الجانب وعلى أهميته لا ينفي أن بريطانيا تمثل بيئة حاضنة ومسرعة للنشاط الاقتصادي والاستثمارات الدولية، فغياب البيروقراطية المعوقة للمستثمرين يعتبر عاملا مهما في تشجيع الاستثمارات الخليجية، إذ إن تأسيس مشروع في بريطانيا يستغرق 13 يوما فقط، كما أن المسؤولين عن قطاع الأعمال والاستثمارات في الحكومة البريطانية لا يتوقفون عن تقديم مبادرات جديدة يمكن لرجال الأعمال الخليجيين الاستفادة منها، ومن أبرزها برنامج "سيريوس"، وبرنامج رواد الأعمال العالمي.
وتوضح بولا كانيو مديرة حملة برنامج " سيريوس" لدى الهيئة البريطانية للتجارة والاستثمار لـ "الاقتصادية"، أن البرنامج الذي أطلق في أيلول (سبتمبر) 2013 لمدة عامين، يعمل على استقطاب أكثر الخريجين إبداعاً، للمساعدة في تحويل أفكارهم إلى واقع من خلال الاستثمارات العالمية، وتحويلها إلى مشاريع ناجحة قابلة للنمو والتوسع عالمياً في مرحلة لاحقة. وأفادت بولا في تصريحات لها على موقع وزارة الخارجية البريطانية أنه تم استلام 72 طلبا من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من بين 1700 طلب حول العالم، واختير 150 فائزاً نهائياً من قطاعات مختلفة تمتاز بمقوّمات تقنية ورقمية متطورة، سيتم الإعلان عن أسمائهم قريباً، ويحصل هؤلاء على دعم مالي أولي بقيمة 12 ألف استرليني في السنة، لتغطية نفقات المعيشة الأساسية، وعلى مساحة مكتبية فضلا عن التوجيه والمساعدة في كيفية الانتقال للإقامة في المملكة المتحدة.
أما برنامج رواد الأعمال العالمي فيهدف إلى جذب أفضل المشاريع المطوّرة والمستدامة، لإنشاء مقر أعمالها في المملكة المتحدة، إلا أن البرنامج لا يوفر دعما ماليا وإنما يساعد على تنمية وتسريع تلك المشاريع. وقال توماس كولمان أحد المشرفين على برنامج رواد الأعمال العالمي لـ "الاقتصادية"، إن حصر قدرات منطقة الخليج في مجال الاستثمار المالي فحسب لا يمنح المنطقة حقها، فهناك العديد من الكوادر والخبرات المتنوعة يمكن الاستفادة منها، ولهذا تحديدا أنشأ عمدة لندن بوريس جونسون صندوقا بقيمة 100 مليون جنيه استرليني لدعم أصحاب المشاريع التكنولوجية العربية والإسلامية، بهدف تعزيز الوجود العربي لرجال الأعمال في مجال التقنيات الحديثة في بريطانيا.
وصرح ديفيد سلاتر، مدير تطوير الأعمال الدولية في شركة "لندن آند بارتنرز"، أن الأمر أصبح أسهل بالنسبة للمستثمرين العرب لتداول وتأسيس الأعمال في لندن، والتفاعل مع المستثمرين من الجنسيات الأخرى، وذلك بفضل مركز الإعلام والتكنولوجيا الموجود في شرق لندن ويضم 250 شركة عالمية في مجال التقنيات الحديثة.
وأشار سلاتر إلى أن رواد الأعمال الخليجيين الذين يرغبون في تأسيس مشاريع في بريطانيا لا يحصلون فقط على تدريب عال وخبرة متميزة، لاختلاطهم بمجموعة من كبار رجال الأعمال والخبراء المتمرسين من مختلف أقطار العالم؛ بل يطورون مهارات تخوّلهم العودة إلى ديارهم برؤية عالمية ونقل حصيلة خبراتهم المكتسبة إلى بلدانهم، وبالتالي المساهمة بشكل فعال في دعم وتطوير اقتصادهم المحلي.