إعادة هيكلة المصارف البريطانية تشطب آلاف الوظائف
كان المظهر الأول للأزمة الاقتصادية العالمية عند اندلاعها في2008، مظهرا مصرفيا بامتياز، بعدما عجزت المصارف الدولية الكبرى حينها في سداد ما عليها من ديون، وأضحت على شفا الإفلاس، مما دفع الحكومات إلى التدخل لإنقاذها، سواء بتقديم مساعدات مالية عاجلة بمئات المليارات، أو بتأميم جزئي لتلك المصارف كما فعلت حكومة حزب العمال في بريطانيا عند اندلاع الأزمة.
وكانت بريطانيا من أبرز البلدان الرأسمالية عالية التطور التي أصيب نظامها المصرفي بهزة ضخمة، لم يفلح حتى الآن في التعافي منها بالكامل، فعلى الرغم من ضح الحكومات البريطانية المتعاقبة سواء كانت العمال أو التحالف القائم حاليا بين المحافظين والليبراليين الديمقراطيين لمليارات الجنيهات الاسترلينية لإنقاذ المصارف الثلاثة الرئيسة في بريطانيا (بركليز، ولويدز، ورويال بنك أوف اسكوتلند) إلا أنهم ما زالوا يراوحون بين أرباح هشة وخسائر فادحة.
وتظهر الأرقام حجم الأزمة المصرفية البريطانية، فإجمالي الأصول التي تحتفظ بها المصارف البريطانية يقدر بنحو ستة تريليونات استرليني، وأعلن مكتب التدقيق الوطني إن إجمالي المساعدات الحكومية للمصارف بلغ 1.162 ترليون استرليني، وهو رقم يكشف بوضوح حجم الكارثة التي تطلبت أن تقوم المصارف البريطانية بتغييرات جذرية عنيفة للخلاص من أزمتها.
يقول موران بيل الاستشاري لعدد من المؤسسات المالية البريطانية لـ "الاقتصادية"، إنه على الرغم من تحسن معدل نمو الاقتصاد البريطاني وفي ظل التوقعات بأن يحقق معدلا يتجاوز 3 في المائة ليصبح الأفضل أوروبياً، فإن المصارف البريطانية ومن بينها المصارف التي تمتلك الحكومة حصة كبيرة من أصولها لا تزال تتعرض لخسائر، وهذا ما يدفعها للبحث عن مخرج بتقليص عدد العاملين لديها.
وبنك باركليز هو أحد المصارف التي تبنت هذا النهج، فبحلول 2016 سيكون البنك قد تخلص من 19 ألف وظيفة في جميع فروعه المنتشرة حول العالم، من بينها تسعة آلاف وظيفة في المملكة المتحدة بمفردها، وسينصب هذا التقليص في قوة العمل على قسم "البنك الاستثماري" في الأساس، إذ سيطاح بنحو سبعة آلاف شخص من العاملين فيه عبر العالم، ومن بينهم ألفا موظف في بريطانيا وحدها، ومع أن تلك الخطوة تأتي في أعقاب تراجع أرباح البنك في بداية هذا العام، فإنها لا تزال مثار جدل بين العاملين في القطاع المصرفي.
فجيم وايز من مؤسسة مورجان ستانلي يعتبرها خطوة إيجابية، ويصرح لـ "الاقتصادية" قائلا إنها عودة لأبجديات النظام الرأسمالي، عندما تتعرض مؤسسة لخسائر مالية فإنها تقلص نفقاتها، والأجور والرواتب من أبرز جوانب النفقات ولذلك فإن إدارة باركليز تتجه لخفض عدد العاملين، وهذا سيجعل البنك أكثر بساطة في تعاملاته وتركيزا في أهدافه، وأسرع في حركته أمام منافسيه، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الجزء الأكبر ممن سيتم إحالتهم للتقاعد هم من أصحاب الرواتب الكبيرة، فإننا ندرك التأثير الإيجابي لتلك الخطوة في ميزانية البنك.
على النقيض تماما من ذلك يقف والتر جراي من رابطة العاملين في قطاع البنوك ضد قرار بنك باركليز، ولـ "الاقتصادية" يشير إلى أن البنك قرر التخلص من هذه الأعداد من العاملين بدعوى تعرضه للخسارة، ومع هذا فإنه يقدم حوافز مالية لمجلس الإدارة بلغت 10 في المائة، وأعتقد أنه كان من الأجدى وقف هذه الحوافز والحفاظ على وظائف العاملين وعدم طردهم.
وربما يكون بنك باركليز أكثر المصارف البريطانية تبنيا لسياسة تقليص عدد العاملين لديه الآن، لكنه ليس المصرف الوحيد في هذا المجال، فبنك لويدز الشهير يتبنى أيضا السياسة ذاتها، ولكن بمعدلات أقل نسبيا من منافسه، وربما يعود عدم اندفاع المجموعة المصرفية للويدز لخفض عدد العاملين لديها إلى أنه في عنفوان الأزمة الاقتصادية في 2008 قامت الإدارة بطرد 30 ألف موظف لتقليص حجم النفقات، ومع هذا فإن أنطونيوا هورتا الذي تولى إدارة المجموعة قبل ثلاثة سنوات، أعلن عن خطته لخفض عدد موظفي المصرف بـ 15 ألف موظف، وبالفعل تم حتى الان إنهاء 11760 وظيفة، مشيراً إلى أنه سيتم قريبا الاستغناء عن 1300 موظف نصفهم تقريبا من مديري أقسام الاستعلامات للتعامل مع الشركات الصغيرة.
وقد أثار خفض الوظائف في لويدز حفيظة النقابات العمالية، وخاصة أن القرار تزامن مع بدء المصرف في دفع أرباح للمساهمين للمرة الأولى منذ أزمة 2008، وقيام الحكومة ببيع الشريحة الأولى من أسهمها في المجموعة المصرفية في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، وهو ما اعتبر مؤشرا على تعافي المصرف.
وأبدي نايجل رود رئيس وحدة متابعة الأنشطة التجارية الصغيرة في نقابة العمال البريطانية اعتراضه على قرار لويدز، ويوضح لـ "الاقتصادية"، أن البنك استغل العاملين لديه أبشع استغلال، فخلال عثراته المالية أبقى عليهم، ولم ترفع الرواتب لسنوات رغم التضخم الذي أدى لتراجع مستوى معيشة هؤلاء الموظفين، والآن وعندما اقترب الازدهار وبدلا من رفع الرواتب والأجور يتم التخلص من الموظفين سواء بالطرد أو بمعاش مبكر.
ومع هذا فإن لويدز لديه مبررات لهذا التخفيض، فقد أصدر بيانا ردا على احتجاجات المحتجين جاء فيه " أن عملية الخفض تأتي في إطار سعي البنك لتطوير تكنولوجيا المعلومات لديه ليستطيع منافسة المجموعات المصرفية الأخرى".
المشكلة ذاتها تمتد أيضا إلى رويال بنك أوف اسكوتلندا أحد أكبر ثلاثة مصارف بريطانية، فالمصرف تعرض لخسائر مالية جمة منذ وقوع الأزمة المالية، ما دفع الحكومة إلى ضخ مليارات من الجنيهات الاسترلينية لتفادي إعلان إفلاسه، وأصبحت الدولة بمقتضي تلك المساعدات تمتلك ما يزيد قليلا عن 80 في المائة من أسهمه.
ودفعت سلسة الخسائر المتواصلة بإدارة المصرف إلى التخلص من 6300 موظف، والإعلان عن خطة لإعادة الهيكلة تتضمن إلغاء وظائف بنحو 30 ألفا من العاملين في المصرف خلال السنوات الثلاث المقبلة، من بينهم 11 ألف وظيفة في قسم الاستثمار إذ سيبتعد المصرف عن الأسواق الآسيوية والأمريكية، على أن تستخدم تلك الأموال لتطويره في مجال تكنولوجيا المعلومات.
وعلى الرغم من أن المصرف حقق أرباحا تقدر بـ 2.2 مليار دولار منذ بداية العام وحتى آذار(مارس) إلا أن الحكومة رفضت حتى الآن الخطة التي طرحها روز ماك أوين الرئيس التنفيذي للمصرف بمنح كبار المسؤولين فيه حوافز ومكافآت، وقد نقلت صحيفة الجارديان البريطانية عنه قوله إنه إذا رفضت الحكومة دعم خطتي بشأن الحوافز والمكافآت التشجيعية فسيكون من الصعب على المصرف أن يحافظ على كبار المسؤولين.
وإضافة إلى عملية خفض أعداد العاملين، فإن رويال بنك أوف اسكوتلند طرح أسلوبا آخر لخفض النفقات عبر تقليص الرواتب، تفاديا لما تثيره عملية طرد العاملين من لغط وجدل بين المصرف ونقابات العمال من جهة، وبينه وبين وسائل الإعلام البريطانية من جهة أخري.
وقررت إدارة المصرف خفض رواتب المتعاقدين لديها في مجال تكنولوجيا المعلومات بنحو 10 في المائة، وأغلب هؤلاء يدخلون ضمن نطاق العمالة المؤقتة ويقدر عددهم بـ 11 ألف موظف، ومع هذا فإن تلك الخطوة أدت إلى استقالة العديد من الكوادر الجيدة، مما أدى لمشاكل تكنولوجيا ضخمة، بعدما فشل الملايين من عملاء المصرف في استخدام ماكينات الصراف الآلي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وقبل الأعياد لوجود خلل في أجهزة الكومبيوتر، مما أجبر المصرف على الاعتذار ودفعه تعويضات بسيطة للمتضررين، والأهم من ذلك رصد مبلغ مليار جنيه استرليني لتطوير قدراته التقنية.