صناعة التعليب
أظهر الطالب محمد ذكاءً كبيراً وحضوراً ذهنيا فريداً خلال مشاركته في برنامج إثرائي تعليمي في الدمام. انبهر المدرب الذي يشرف عليه بأدائه ونباهته. كان يفوق أقرانه بمراحل. يحل المسائل المستعصية بسرعة، ويساعد رفاق فصله بحماسة. شعر مدربه بمسؤولية كبيرة تتمثل في استمرار تشجيع الطالب حتى يصبح عالماً أو باحثاً يُشار إليه بالبنان إثر إمكاناته وشغفه.
رأى مدربه أن ينقل مشاعره وانطباعه وتجربته إلى مدير المدرسة التي يدرس بها محمد حتى يحظى باهتمام ومتابعة تليق بوعيه، ويُوضع له برنامج يُعنى بتطوير قدراته حتى يحقق النجاح المنشود.
لكن المدرب فُوجئ عندما نقل رأيه إلى مدير المدرسة برأي صادم للمدير، قال فيه: "أنت متأكد أنك تتحدث عن محمد أو شخص آخر؛ لأن الطالب الذي تتحدث عنه هو أحد أكثر طلاب المدرسة إهمالاً. لا يحل الواجبات، ولا يحترم معلميه، ولا يكترث بالحصص". حينها استعرض المدرب صورة محمد في جوّاله، وقال: "أقصد هذا الطالب". عندما رأى المدير الصورة قال فاغراً فاه: "إنه محمد فعلاً. الطالب المهمل وليس الطالب الجاد المميز الذي تتحدث عنه".
حرص المدرب أن يحسم الأمر عبر تسجيل ورشة أعدّها بحضور محمد ليعرضها على مدير مدرسته فيما بعد. دهش المدير حينما شاهد التسجيل، ودعا معلمي محمد إلى أن يشاهدوه حتى يروا كيف يتألق طالبهم خارج فصولهم.
هذه الحادثة غيّرت مسار محمد. نال اهتماماً أكبر من مدرسيه. مسحوا من ذاكرتهم محمد القديم وبدلوه بمحمد الجديد. فبعد أن كان يأخذ في الاختبارات أقل الدرجات، صار يحوز أعلاها.
وقع محمد سنوات عدة فريسة للأحكام المسبقة في مدرسته. كان ضحية للروايات السيئة التي يتوارثها معلموه عنه. في حين تحرّر من كل الماضي عندما شارك في برنامج إثرائي خارج أسوار مدرسته فأبدع وأدهش.
كثيرون مثل محمد في حياتنا. ربما محمد أوفرهم حظاً. لقد اكتشفناه قبل أن يتحوّل من ضحية إلى جلاد. لكن هناك ممّن يرزحون تحت وطأة أحكامنا. إننا نتعامل مع الآلاف حولنا إثر القوالب النمطية التي نضعهم فيها، ولا نمنحهم فرصاً ثانية.
إننا نسير ونقولب الناس. لا نترك لهم فرصة لإثبات كفاءتهم. نضعهم في قوالب ونعلبهم وننتظر منهم أن يبدعوا. لا يمكن أن نضع الإبداع في علب. الإبداع ليس تونة أو جبناً لنعلبه.