بعد الاضطرابات العربية .. انحسار ظاهرة الدعاة الجدد
الداعية الجديد، بحسب الباحث وائل لطفي، صاحب كتاب (ظاهرة الدعاة الجدد) والحائز علي جائزة الدولة التشجيعية عن هذا الكتاب "رجل أنيق، خطابه بسيط، يربط الدين بالحياة وبالمشكلات الاجتماعية، له قبول اجتماعي وقدرة على توصيل المعلومة بسهولة، جمهوره شباب ونساء من الشرائح الاجتماعية العليا التي تبحث عن الجانب الروحي، وهي في حاجة إلى تدين لا يحرمها من مباهج الحياة التي تملكها بالفعل".
أو بحسب تفسير آخر "هي في حاجة إلى رجل دين يلعب دور المطهر الذي يحلل الثروة، بغض النظر عن طريق جمعها، ويؤكد للأثرياء أنهم يمكن أن ينالوا الدنيا والآخرة، إذا اتبعوا خطوات معينة".
وعن سبب تركيز الدعاة الجدد على استهداف طبقة معينة من خلال برامجهم، يختصر الداعية خالد الجندي الكثير بقوله "إن التأثير في أبناء النخبة هو أقصر طريق لتغيير المجتمع".
الشقيري والسويدان
وفي الطريق إلى هذا التغيير لا مانع من أن تجتمع الثروة والشهرة والنفوذ؛ الثلاثي الذي يجمع بين الدعاة الجدد ونجوم الفن والإعلام، فالبعد الاقتصادي الذي يدعم هذا الثلاثي غير غائب في ممارساتهم، كما يوضح ذلك لطفي، في كتابه، حيث "يتبنى رجال الأعمال العديد من هؤلاء الدعاة، وتحتضنهم العديد من الشركات (اتصالات وإعلام) التي تدر عليها أشرطتهم وبرامجهم أرباحًا خيالية". ومن جهة أخرى موازية، يصل لطفي إلى أن هذا البعد الاقتصادي غير غائب أيضًا عن خطاباتهم الوعظية بحكم مباركتهم للثروة و"جعلها دليلاً على رضى الله، وأن تنميتها هي فعل من أفعال التقرب لله".
وبرغم عدم إنكار الدعاة الجدد مظاهر الثروة أو النجومية البادية عليهم، والسعي لمزيد منها طالما هي علامة من علامة رضى الله عن عبده. إلا أنهم كانوا يعتمدون، وبكثير من الوضوح، على فكرة أساسية في خطابهم. تمنع الخوض في السياسة أو تعاطيها. وهو ما يؤكد عليه الداعية عمرو خالد وغيره حين يشددون على فكرة مفادها "أن القدس لن تتحرر إلا عندما يصبح عدد من يصلون الفجر في المسجد مساويًا لعدد من يصلون الجمعة.. وعندما يجاهد المسلمون أنفسهم وخطاياهم"، معبّرين عن خطاب اجتماعي خالص يقدم جهاد النفس على المظاهرات والثورات، ما جعل كثير من الحكومات، في وقت مضى، تجد فيهم بديلا مناسبا للحركات المتطرفة.
الأمر الذي ضاعف من شهرتهم وتمكينهم. إلا إن كثيرا من النوايا ما لبثت أن تكشفّت، بحسب منتقديهم، بعد أحداث "الربيع العربي"، ما جعل الكثير من المؤسسات والأفراد يعيدون النظر في حساباتهم وعلاقاتهم.
وفي الحوار الأخير الذي أجرته قناة الرسالة ( برنامج في الصميم) مع الداعية السعودي الشهير أحمد الشقيري، كانت معظم الأسئلة التي أثارها المشاهدون تدور حول الثروة والسياسة (النفوذ). سواء كان ذلك من جهة حقيقة ما يمتلكه الشقيري شخصيًا من ثروة، أو من جهة علاقته بالإخوان عموما وبالداعية المعروف طارق السويدان، خصوصا.
#2#
والذي أنكر الشقيري علمه، بانتمائه (السويدان) الحزبي السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين"، التي دفعت قناة الرسالة للتخلي عنه. فهل الجهل كل هذه السنين منطقي، وهل الدعوة المبنية لسنين طويلة على هذا الجهل ممكنة ومقبولة؟
هذا ما يتطرق إليه، بالتفصيل، الكاتب والباحث، محمد علي المحمود، في حديثه لـ "الاقتصادية الثقافية"، مؤكدًا أن "هذا استغباء مفضوح من قبل هؤلاء، لا يمكن جهل مثل هذه الانتماءات المعلنة، خاصة أن العلاقة بينهما وصلت درجة تقبيل الأيدي. لا السويدان ولا غيره من نجوم الفضائيات مجهول الانتماء لأي مُهْتم". وحول طارق السويدان وانتمائه السياسي، كمثال، ومدى تأثير هذا الأمر ثقافيا من خلال طرح قناة الرسالة التي كان يديرها، يضيف المحمود "ليس المهم أن يكون ثمة انتماء لدى هذا أو ذاك، وإنما المهم هو انعكاسات هذا الانتماء على الطرح الذي يتم ترويجه، ومن ثم تحديد مستوى الأثر السلبي لهذا الطرح"..
وهنا، يرى المحمود أن السويدان من خلال إشرافه على قناة الرسالة لم يخدم الفكرة الإخوانية؛ بقدرما خدم ــ إلى حد ما ــ رسالة الانفتاح الديني.
نعم هناك سلبيات، وتقاطعات مع بعض الهموم الإخوانية، و"تسطيح فكري واضح"، بحسب وصف المحمود، ولكن زعزعة كثير من القناعات التي تقف على الطرف الآخر المتزمت ليس شيئا هينا. ولتوضيح الفارق النسبي هنا، يُمثّل المحمود بقنوات وعظية أخرى، تتمسح بالدين، على حد تعبيره، ومع ذلك لم تقدم شيئا، من انفتاح الرسالة، بل يصل بها التزمت المرضي إلى درجة تغييب المرأة تماما، فتصبح قنوات ذكورية بامتياز. أي قنوات عنصرية تجاه المرأة ككائن من حقه الحضور العام، على حد تعبير المحمود.
هل تراجع التأثير؟
تشير دراسة حديثة لمركز الأهرام حول ظاهرة الدعاة الجدد (2013) إلى أن هذه الظاهرة تشهد كثيرا من الانحسار. واستعرضت بعض المؤشرات، منها تراجع مبيعات الكتب والمشاهدة لبعض البرامج، إضافة إلي عدم ظهور نجوم جدد. فيما أرجعت الدراسة أسباب التراجع لأسباب عدة، منها، تزايد الرفض المجتمعي لتوظيف الدين في المجال العام، ولسقوط بعض نماذج الدعاة الجدد، تبعا لكثير من الأحداث السياسية. ومثلّت الدراسة على ذلك بتباين تصريحات الداعيتين صفوت حجازي وخالد عبدالله إبان الأزمة المصرية، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بطبيعة ما يقدمه الدعاة الجدد، والذي أصبح، بحسب الدراسة، رتيبا ومملا، يفتقد الابداع والتجديد المطلوبين.
وهذا، ما لا يؤكده ولا ينفيه المحمود فالتراجع أو الانحسار، بالنسبة له، لا يعني اختفاء الظاهرة أو موتها: "لا لشيء كامن فيها يكفل لها الاستمرار، وإنما لأن الجماهير لا تزال ــ مع الأسف ــ هي ذاتها لم تتغير. الجماهير المستلبة بخطاب التقليد هي التي لا تزال تمنح هذه الظاهرة (الدعاة الجدد) البقاء". فالمسألة، يضيف المحمود: "عرض وطلب، الجماهير لا تزال تقتات على هذا الخطاب الساذج الرخيص، وهي جماهير واسعة تكفل للإعلام المرئي متطلبات التسويق الإعلاني، ومن ثم سيحرص عليها الإعلام الفضائي".
أما "القابلية للتكيف والقدرة على تطوير الخطاب" فهي الخلاصة التي يصل إليها كتاب "ظاهرة الدعاة الجدد" الصادر 2005 وهو ما أثبته بعد ذلك كثير من الأحداث. ما يعتبره بعض منتقديهم قدرة عالية لدى الدعاة الجدد على "المرواغة والتلون في صياغة الخطابات"، يعتبرونه قدرة على التطور ومواكبة التغيرات، وهو ما لا ينفيه الأستاذ المحمود، باعتباره أمرا طبيعيا، إذا ما تعلق الأمر بالتفكير ومساراته، ويقول: "الدعاة مثلهم مثل غيرهم ممن يشتغل على هموم أيديولوجية أو حركية، حيث يصعب الفصل بين مسارات الفكر. ومن خلال هذه الصعوبة يسهل تمرير أي شيء، وبالمقابل يسهل توهم أن ثمة تمريرا حدث".
لكن ــ ونحن نتعامل مع قضايا الفكر الشائكة والمتواشجة ــ يضيف المحمود، علينا أن ندرك أن الفكر لا يسير بتوجيه ولا يخضع لتقنين، خاصة في هذا الزمن الانفتاحي الذي يحدث فيه الفكر والفكر المضاد ارتدادات غير متوقعة، إذ كثيرا ما تنقلب الأطروحات الفكرية على سدنتها المروجين لها، وكثيرا ما يعبرها المتأثرون بها، فيتجاوزونها لتصبح مجرد قنطرة إلى شواطئ أخرى. والنتيجة، بحسب المحمود، أن "مسائل الفكر ذات مرونة عالية، لذلك علينا أن نتعاطى معها أيضا بمرونة، ولا تأخذنا الحساسية الزائدة تجاه تسرب الأفكار التي نختلف معها إلى مجالنا الفكري، إذ إن هذه الحساسية هي خاصية تتوافر عليها التيارات المحافظة".
أما تغير الوقائع السياسية، وسقوط بعض النخب بسببها، مع ثبات الوقائع الثقافية والمجتعية، فلن يغير، بحسب المحمود، من الأمر شيئا؛ لأن "المزاج السياسي ليس هو الذي صنع ظاهرة الدعاة الجدد، وإنما هذه الظاهرة، كما المزاج السياسي ذاته، كلاهما نتاج وعي تقليدي ماضوي سائد في محيطنا، وهو وعي فقير لا يزال يعيش في حدود الأفق المتاح لعصور الانحطاط. إن المزاج السياسي فرع كما الدعاة الجدد فرع، وبقاؤهما متعلق ببقاء الأصل، الذي هو تجذر ثقافة التقليد في الوعي العام".
وهذا ما يعني استمرار حلقة ثقافية اجتماعية أكبر من الدعاة الجدد أنفسهم، تعيد إنتاج الخطابات ذاتها. وهذه الحلقة لن يكسرها، في رأي المحمود، إلا "استحضار ثقافة مغايرة أشد ما تكون المغايرة للتاريخ الثقافي التقليدي السائد منذ قرون". وأكد المحمود في ختام حديثه أن "تراث التنوير الذي يتضمن التنوع الضدي لمفردات الموروث السلبي هو المُعوّل عليه في فك هذا الحصار الثقافي".
التراث والدراما
وعن البنية الفنية لهذه البرامج الدعوية، وعلاقتها بالموروث، يتحدث لـ "الاقتصادية الثقافية" الكاتب، محمد السحيمي، موضحًا أن معظم هذه البرامج تتكئ على "الدراما" باعتمادها على الأسلوب القصصي في السرد والحكايات. ومن هنا يرى السحيمي أنها متأصلة في تراثنا حيث تعزو أهم مراجع الأدب العربي إرهاصات فن القصة القصيرة إلى الوعاظ بدءاً من العصر الأموي.
ولكن السحيمي يختلف مع هذه البدايات، إذ يرى أنها بدأت فعليا قبل ذلك مع "كعب الأحبار" اليهودي اليمني الذي أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. والذي لم يتخلص، بحسب السحيمي، من إرثه المعروف في كتب التفسير بـ "الإسرائيليات" فكان يحدث به الناس إلى أن منعه الخليفة عمربن الخطاب، فتوقف ثم عاد فور مقتل عمر "يحدث الناس بأساطير اختلط الصحيح فيها بالزائف حتى تحرج المفسرون من روايتها أصلاً".
هذا فيما يتعلق بالشكل الفني لهذ البرامج، إلا أن الخطورة الأكبر، في رأي السحيمي، حين "يندرج في هذا النوع من القصص الأحاديث الموضوعة على النبي صلى الله عليه وسلم". وهو ما حصل ويحصل في الكثير من البرامج، من إدراج لأحاديث وقصص مكذوبة أو موضوعة بهدف الوعظ دون أدنى مراجعة أو تأكد من صدق المعلومة.
#3#
وعن طبيعة توظيف هذه القصص، يقول السحيمي: "هم لايستخدمون القصص المكذوبة للترهيب فقط بل إنهم يستخدمونها للترغيب أيضاً"، حيث لم يتأخر كثير من الدعاة الجدد عن ركب التقدم، على حد تعبير السحيمي، فكانوا من أوائل من درسوا "تطوير الذات" حتى صاروا "يعرفون التأثير الإيجابي، ويحرضون الآخرين على بذل الغالي والنفيس، والتخلص من حب الدنيا، بينما هم يراكمون الثروات".
ويبقى أنه لا جديد في هذا "الجديد" إلا قوالبه التي تجددت بفعل الزمن، وشخوصه الذين تكاثروا بفعل الموضة التي ليست إلا تقليدًا حداثويًا، يدعو للتكرار الرتيب حتى يأتي من يكسر "القالب"، مبشراً بقالب آخر جديد، لا أكثر ولا أقل. وهنا يعود السؤال التاريخي، القديم المتجدد، للظهور مرة أخرى. وهو السؤال الذي أثار كل هذا البحث وكل هذه المداخلات: متى وكيف سيتغير المضمون الثقافي، بعيدا عن إغراء سطحية "القوالب" وظواهرها؟