«السيلفي» .. اقتناص اللحظة في صورة تجمع العالم
"السيلفي" أو تصوير الذات، ظاهرة لاقت رواجا عالميا، لم تُستثنَ منه "الخصوصية السعودية"، مع الأخذ في الاعتبار أنها من الثقافات العربية التي تميل لإنكار الذات والتحفظ، مقارنة بثقافات تميل لمشاركة الآخرين الكثير من تفاصيل حياتها دون حرج.
ولكن ذلك لم يمنع انتشار هذه الظاهرة لتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بهذا النوع من الصور وبشباب وفتيات سعوديين جاهزين بكامل العدة والعتاد "جوالات وعصي خاصة للتصوير" لاقتناص هذه اللحظة الخاصة ومشاركتها "الغرباء"، في ثقافة يعتبرها البعض دخيلة، بينما يعتبرها البعض الآخر نتيجة طبيعية لهذا التواصل الكوني.
سيلفي العيد
من تابع وسائل التواصل الاجتماعي خلال هذا العيد، يلاحظ مدى صعود هذا "التنافس الذاتي" وما وصلت إليه هذه "الثورة التعبيرية"، حيث أخذت من طبيعة الثقافة السعودية الكثير، فكان للاجتماعات العائلية وللأطفال ولكبار العائلة النصيب الأكبر من هذه الصور. كما كان لصورة الملك عبد الله الشهيرة، في وقت سابق، مع أحد أحفاده الكثير من القبول والرواج، في صور رآها الكثيرون بشيء من الود والتفاؤل، إذ كان للثقافة السعودية، العائلية بطبعها، حضورها الواضح.
ولكن هذه الصور الجميلة لا تلغي وجود كثير من حالات "الإدمان" على صور سيلفي أخرى في المقابل. ومثل هذه الحالات تثير الكثير من الأسئلة الاجتماعية والنفسية الصحية، كما تثير الكثير من المخاوف الثقافية المبررة حيال هذه الظاهرة. إذ إنه وبعد أن كان الناس يستوقفون المارة طالبين مساعدتهم على التقاط صورة، أصبح بوسعهم الآن أن يلتقطوها بهواتفهم المحمولة. لتزيد فرص الاستغناء عن التفاعل البشري وإرضاء النزعات النرجسية مباشرة، مهما كانت، ودون وسيط.
ما يعكس تغيرًا في القيم الاجتماعية. تكرّسه ثقافة "المشاركة الإلكترونية" التي لم تعد ترتكز على الأقارب وامتدت لتشمل الكثير من الغرباء، حيث صفحات الإنترنت المفتوحة. وكأننا لا نقنع بصورنا أو تجاربنا الذاتية دون أن يكون عليها "شهود" لا يهمنا معرفتهم شخصيا بقدر ما يعنينا ويهمنا "إعجابهم" (لايك) أو إعادة تغريدهم (ريتويت).
وإلى أبعد من ذلك، تذهب الدكتورة سوسن فايد أستاذة علم الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية موضحة أن انتشار ظاهرة تصوير الذات "السيلفي" تدل على بحث القائم بها على التميز وجذب الانتباه.
وأضافت الدكتورة سوسن خلال لقائها مع برنامج "هذا الصباح" الذي عرض على قناة "سي بي سي إكسترا" الإثنين الرابع من آب (أغسطس) الجاري أن ظاهرة التصوير السيلفي تعد شكلا من أشكال تطور عادة النظر في المرآة التي تُلاحَظ لدى الأشخاص شديدي الإعجاب بأنفسهم. وأوضحت أن الشعور بالفراغ والاهتمامات الوهمية العابرة يؤدي لتزايد الاهتمام بهذه الموضات الإلكترونية.
#2#
الأنا الافتراضية
تقوم نظرية فرويد في التحليل النفسي على عدَّة مفاهيم، أبرزها مفهوم الشخصيَّة؛ حيث يرى فرويد: أن الجهاز النَّفْسي للإنسان يتكون فرضيًّا من: الميل للرغبات، والنزعات الفطرية، وهذا الجزء هو ما يسميه البعض تجاوزا بـ "الأنا السفلي"، إضافة إلى "الأنا الأعلى" المتأثرة بثقافة محيطها الاجتماعي. وأخيرًا الشخصية المجردة، التي تقع في شد وجذب بين هاتين الأناتين العليا والسفلى.
وهنا يبدو أن هذه "الأنوات" لم تنته عند هذا الحد لتضاف إليها اليوم "أنا افتراضية" جديدة تقودها الإنترنت من خلال التكنولوجيا وأدوات التواصل الاجتماعي.
وفي حوار أجرته صحيفة الـ "واشنطن بوست" قبل أسبوعين مع "فينسنت سيرف" كبير الآباء الروحيين للإنترنت، على هامش تكريمه بالميدالية الوطنية في الولايات المتحدة. سُئل إذا ما كان قد فوجئ بما يحدث في الإنترنت اليوم. فأجاب: "قليلا. توجد درجة معينة من "الأنا" في الإنترنت، كما توجد رغبات كثيرة في الظهور، وفي التفاخر. مثلا: مرات الظهور، ومرات النقل، ومرات ربط الصفحات والمواقع، أشياء مثل أن "تحب" أو "لا تحب" هذا أو ذاك".
عالميا، يذكر أنه في نهاية عام 2013، اعتبر قاموس أوكسفورد الإنجليزي تعبير سيلفي "كلمة العام" وأعطاها تعريفا مفاده "صورة ملتقطة ذاتيا بواسطة هاتف ذكي أو ويبكام وتنشر على موقع للتواصل الاجتماعي". ويعتبر محرك البحث "ياهو" أنه في عام 2014 ستلقط نحو 880 مليار صورة أي 123 صورة لكل واحد من سكان الأرض.
ويتوقع أن يكون الكثير منها من نوع "سيلفي". وفي بريطانيا أشارت دراسة طلبتها شركة "سامسونج" الكورية الجنوبية لصناعة الهواتف أن الرجال ــــ وعلى غير المتوقع ـــــ هم المأخوذون أكثر بهذا النوع من التصوير، حيث 17 في المائة من الرجال و10 في المائة من النساء يلتقطون صور "سيلفي"، "لأنهم يرغبون أن تكون لديهم صور جميلة لأنفسهم".
وعن مدى علاقة هذه الثقافة بالنرجسية تقول سارة كينيل أمينة قسم الصور في "ناشونال غاليري أوف آرت" في واشنطن" إنها بمثابة كلمة جميلة نوجهها إلى أنفسنا". بينما يقول المصور الفرنسي المقيم في باريس جان فرنسوا فيبيري لوكالة الصحافة الفرنسية "إن السيلفي عملية تتوسع في المجال الاجتماعي ـــ الافتراضي". ويضيف "فكرة أن يلتقط الشخص صورة لنفسه خلال رحلة إلى الخارج أو خلال حدث ليقول "لقد كنت هناك" أمر أناني مثل المرحلة التي نمر بها.
فينبغي أن نكون جميعا أبطال حياتنا الخاصة". وهو يأسف لانقضاء المرحلة التي "كنا نلتقط فيها صورة لصديق ونرسل له نسخة عنها مع إطار ربما. وكان الأمر يثير الفرحة وكان بمثابة هدية ودليل صداقة".
سيلفي الفلاسفة
أما الفيلسوف البريطاني "سيمون بلاكبيرن" فعلى عكس كثير من المتشائمين يشير، من خلال حوار في صحيفة "أيريش تايمز"، إلى أننا لا ينبغي أن نقسو في أحكامنا على شباب اليوم المهووس بالـ "سيلفي"، وفي أحدث كتبه "مرآة : منافع ومساوئ حب الذات" يلقي الضوء على أهمية أن يكون لدى المرء شيء من التقدير لذاته، ولكنه ينبِّه ـــ ساخرا ــــ في الوقت نفسه إلى عواقب أن يصل الأمر بتقدير الذات إلى حالات مثل حالة "توني بلير" (رئيس وزراء بريطانيا الأسبق) أو بعض "العاملين في البنوك".
ويجيب بلاكبيرن عن سؤال متى يتجاوز تقدير الذات الحدود فيصبح نرجسية. قائلا: "الدرجة المعتدلة من تقدير الذات هي التي يسميها الشاعر جون مِلتون "الإكرام العادل الورِع لأنفسنا"، وليس ذلك أكثر من احترام المرء نفسه ببساطة واعتدال، وهي سمة قادرة على الوقوف في وجه الغرور الذي يعوق إعجاب الآخرين".
والنرجسية برأي بلاكبيرن نتيجة فقط، أما الطريق إليها فيمر عبر الغرور: فالمغرور ينشغل أكثر مما ينبغي بصورته في أعين الآخرين، ثم ينتقل من ذلك إلى تجاهل الآخرين تماماً والتركيز على رأيه هو في نفسه، فالنرجسية هي المصير الحتمي لهذا الغرور.
#3#
وعن دور التكنولوجيا تحديدا في هذا الأمر يؤكد بلاكبيرن أنها تمنحنا فقط فرصاً أكثر: بوسعي أن أقتحم حياتك وحياة عشرات الآخرين بصور إنستجرام لإفطاري، وهو شيء ما كنت لأقدر عليه قبل عشر سنين، ولكنني أرى أن علاقة ذلك بالغرور ــــ ونقص الثقة بالنفس في حقيقة الأمر ــــ أكبر من علاقته بالنرجسية الحقيقية، فنزوع المرء إلى فرض نفسه على المشهد موجود وقديم. لقد حفر "بايرُن" اسمه على معبد سونيون الجليل، ومقارنة بهذا، تكون السيلفي شيئاً لا ضرر منه.
وعند سؤال بلاكبيرن إذا ما كان يلتقط لنفسه صور "سيلفي" أجاب ساخرًا: أنا أساساً لا أمتلك هاتفا "ذكياً" بما يكفي لالتقاط الصور.
ولكنه لا ينكر أنه لا يكره استذكار لحظات وتجارب جميلة في حياته قبل عشر سنين، مثلا، في مواجهة "تاج محل". وأخيرا وعلى غرار "سيلفي العيد السعودي" يفضل بلاكبيرن أن تكون الصورة عائلية، أو لجمع من الأصدقاء، لأنها حينئذ تثير ذكريات سعيدة وبريئة، على حد تعبيره.