غازي القصيبي.. «معركة بلا راية» طالما «كل الزهور تتفتح»
حين سئل القصيبي في أحد حواراته الصحفية، هل يحتاج الشاعر إلى أن يحتضر ثم يموت حتى يبدع وينال نصيبه من المدح؟ أجاب: "لا. هناك أشعار للموت.. وهناك أشعار للحياة". اليوم وفي الذكرى الرابعة لوفاته لا يمكنك إلا أن تستعير هذه الإجابة لتفهم ما أثارته حياة هذا الرجل، في وقت سابق، وما تثيره أيضا ذكرى وفاته.
رجل اختار أقسى العبارات الناقدة لعمله الروائي، بنفسه، ليقدم بها عملين من أعماله. ثم حين سئل لماذا فعلت ذلك؟ قال بابتسامته المعهودة "دع كل الزهور تتفتح". وبالرغم من كل ما تعرض له من مواقف وانتقادات طالت شخصه إلا أن "السخط" و"العراك" لم يعرفا لروحه طريقا. والسبب برأيه أنه "يعمل" كثيرا فلا يجد وقتا للجدل "العمر أثمن من أن نضيعه في سجالات عقيمة".
ولد غازي القصيبي في الثاني من شهر مارس عام 1940، وبعد تسعة أشهر من ولادته توفيت والدته، فأمسى بلا أم ولا أقران أو أطفال في عمره يؤنسونه. وعن تلك الأجواء، يقول غازي، "ترعرعت متأرجحا بين قطبين أولهما أبي وكان يتسم بالشدة والصرامة (كان الخروج إلى الشارع محرّما على سبيل المثال)، وثانيهما جدتي لأمي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على (الصغير اليتيم)". حيث قضى غازي طفولته في الأحساء، ودرس في المنامة حتى المرحلة الثانوية، بعدها انتقل للقاهرة لاتمام دراسته الجامعية. وأكمل دراساته العليا في أمريكا ثم لندن التي أتم فيها رسالة الدكتوراة حول "حرب اليمن".
يذكر أنه في أمريكا وأثناء دراسة الماجستير، جرّب غازي منصبا إداريا للمرة الأولى، وذلك بعد فوزه "بأغلبية ساحقة" في انتخابات جمعية الطلاب العرب في الجامعة، وبعد رئاسته لها بأشهر أصبحت الجمعية ذات نشاط خلاق، بحسب من عاصروه. وبعد عودته من لندن توالت المناصب العملية، الأكاديمية والإدارية، تزامنا مع طفرة وطنية تنموية من جهة، وكفاءة شخصية من جهة أخرى، فكان يعزف عن بعض الأعمال ويقبل بأخرى، ليس مفاضلة منه بين مراتبها ومصالحها، ولكن وفقا لمعايير كان يراها في نفسه، تصلح لمكان ولا تناسب مكانا آخر.
لم تخل حياة القصيبي من مواقف ومجاذبات بدأت مع إصداره لديوانه الشعري الثالث "معركة بلا راية" عام 1970، إذ سار المعترضون في وفود وعلى مدى أسابيع عدة، نحو الملك فيصل لمطالبته بمنع الديوان من التداول، وتأديب الشاعر، فأحال الملك فيصل، الديوان، لمستشاريه ليطلعوا عليه ويأتوه بالنتيجة، فكان أن رأى المستشارون أنه ديوان شعر عادي لا يختلف عن أي ديوان شعر عربي آخر، إلا أن الضجة لم تتوقف حول الديوان واستمرت الاعتراضات، فما كان من الملك سوى أن شكل لجنة ضمت وزير العدل ووزير المعارف ووزير الحج والأوقاف، لدراسة الديوان، وانتهت اللجنة إلى أن ليس في الديوان ما يمس الدين أو الخلق، ولا تمر هذه الحادثة في ذهن القصيبي إلا ويتذكر موقف الملك عبد الله بن عبد العزيز من هذه القضية، إذ يقول غازي، "سمعت من أحد المقربين إليه أنه اتخذ خلال الأزمة موقفا نبيلا وحث الملك فيصل على عدم الاستجابة إلى مطالب الغاضبين المتشنجة".
#2#
ليست مرة ولا اثنتين اعترف فيهما القصيبي بأنه إنسان "متخلف" تقنياً و"كلاسيكيا" في أمور كثيرة، إذ يكتب بقلمه، ولا يحب "الكمبيوتر" أو "الجوال" الذي يخترق عزلته وخصوصيته على حد تعبيره. كما أنه يحب الشعر الموزون التقليدي، عامودا وتفعيلة. ولكن هذا كله لم يعفهِ من "تهمة الحداثة" و"التغريب" ومعاركهما التي زادت و"ازدهرت" فترة الثمانينيات، وكان حينها وزيرا للصحة.
فناله من النقد القليل، ومن التهجم الشخصي الكثير. إلا أنه كان صاحب موقف عملي و"بال طويل"، لدرجة أنه أصدر في تلك الفترة شريط (كاسيت) ليرد به على كثير من الدعاة الذين كانوا ينتقدونه، باسمه الصريح، في خطبهم. وحين سئل عن هذا الشريط قال بظرافته المعهودة، بالرغم من أن المحلات رفضت بيعه حينها إلا إنني استخدمت الشريط من مبدأ "لا يفل الكاسيت إلا الكاسيت".
مرت الأزمان ومرت المعارك الأدبية والعملية، وتوالت المناصب والمسؤوليات، فلم يقف عندها القصيبي، بحنكته الإدارية، لا حبا ولا كرها، كما وقف الكثيرون؛ متمثلا كتابه "حتى لا تكون فتنة" وهو كتاب رسائل مختصر وجهه حينها لمن جعلوا أنفسهم خصوما له، على حد تعبيره، وأشهرهم ناصر العمر وسلمان العودة، طمعا في استشعار الجميع بضرورات "الوحدة الوطنية" وأن تمر تلك المرحلة الحرجة من عمر الوطن بسلام، فكان له وللجميع ما أراد.
ليواصل "العمل" وليخاصم فقط "الراحة" عدوه الوحيد، إذ يقول عنها: "بيني وبينها عداء مستحكم متبادل". وهو ما تقره وتثبته الكثير من الأعمال الإدارية المتنوعة والمؤلفات التي بلغ عددها أكثر من ستين مؤلفا، ما بين رواية وشعر، ومقالات جادة ومتخصصة، إضافة لترجمته للكتاب الشهير والمؤثر "المؤمن الصادق" لإيريك هوفر. أما عن الوقت الذي كان يجده لكل هذا العمل المتواصل، شعرا وكتابة وإدارة، فيقول القصيبي، "لو جرب عشّاق الولائم والمآدب حذفها من برامجهم لفوجئوا بالوقت الطويل الذي يمكن إنفاقه فيما هو أجدى من "الطباخ والنفاخ".
عاد القصيبي للوطن وزيرا، مرة أخرى، بعد عمله سفيرا لدى دولتي البحرين وبريطانيا على التوالي. ليكون وزيرا للمياه والكهرباء 2003 لمدة سنتين تلاهما عمله الأهم، الذي توّج به حياته العملية، وزيرا للعمل 2005. وهنا يكون اختيار القصيبي لهذه الوزارة، تحديدا، من قبل القيادة، لا يشبه غيره، فهو المحب لـ"العمل" بطبعه وطبيعته. ليأتى القصيبي، هذه المرة، وفي جعبته الكثير حول الملف الثنائي الأهم والأخطر برأيه؛ البطالة والسعودة.
بدأ العمل على الفور والتقى بالجميع، شبابا وتجارا، محاولا تقريب وجهات النظر. قلّص التأشيرات وحارب الاتجار بها. ونافح من أجل تقليص العمالة الوافدة غير الماهرة عموما والمنزلية خصوصا. كما عمل جاهدا من أجل استحداث فرص عمل جديدة بتأنيث المحلات النسائية. ونافح من أجل توفير العمل الملائم للشباب من حيث الوقت والمادة. وعارض، عن قناعة، "إعانة البطالة" مؤكدا أنها ستكون سببا في زيادتها.
وشجع التدريب والتأهيل كحل لتقليص البطالة وزيادة السعودة، فقوبل برفض الكثيرين وانتقادهم. حيث التجار يتهمونه بتأخير أعمالهم، وبعض الشباب يتهمونه بالتقليل من إمكاناتهم وازدراء شهاداتهم. ليصطدم في المحصلة بمشكلات "ثقافية" مجتمعية، أكثر منها إدارية، حتى كانت خيبته الكبيرة التي عبّر عنها بمرارة، في بعض المناسبات، بقوله، نحن للأسف نعيش في مجتمع " أدمن الاستقدام".
أما مطالبته بتأنيث المحلات النسائية، تحديدا، فأعادت للواجهة تاريخا محملا بالمعارضة لشخصه أكثر من أي شيء آخر، إلا أن موقفه كان حازما بالرغم من كم المعارضات، ليتنازل عن التوقيت دون أن يتنازل عن الفكرة، التي تُطبق اليوم، بفضل مبادرته وإصراره من باب اقتصادي تنموي وطني، ومن باب حقوقي أيضا، أثبتت جدواه وحقيقته الأيام، فلا أحد بإمكانه أن يعادي التاريخ كما قال، "كانت المرأة مهدورة الحقوق في كل مكان أما الآن فحقوقها مكفولة في كل مكان (تقريباً!). التاريخ يقف في صف المرأة وأعداء المرأة يعادون التاريخ، والتجارب تثبت أن عداء التاريخ قصير الأجل". وكثيرا ما يستشهد القصيبي، وهو عاشق المواقف، بقول الأديب السوري محمد الماغوط، "ما من موهبة تمر بدون عقاب" ليضيف عليها، "وما من موقف يمر بلا ثمن". والموقف من المرأة، بحسب القصيبي، هو "مقياس تحضر" الرجل والمجتمع، لذلك هو من الثابت في مواقفه التنموية والوطنية دون تعنت ثقافي جدلي، مع كثير من التفهم لمن يخالفه. تفهم صقلته تجاربه الإدارية، فقربه من الناس على اختلاف طبائعهم ومشاربهم، أضاف لشخصه الكثير من الواقعية التي يفتقدها أمثاله من المثقفين والمبدعين.
"مبدع" قد تكون هي الكلمة التي تستطيع أن تجمع كثيرا من المشتركات في شخص هذا الرجل الأكاديمي والسياسي والأديب. وهي الصفة التي يجب أن تنضج على نار "التجربة" و"المعرفة" بصبر كثير وعلى مهل، يجعله يأسف، ساخرا، على عدم وجود وصفة للمستعجلين، "الإبداع طفل ينتمي إلى والدين، أحدهما الموهبة والآخر الاطلاع، والكاتب الحقيقي يقرأ مئة صفحة قبل أن يكتب صفحة واحدة، والشاعر الذي يستحق اسم الشاعر يقرأ مئة قصيدة، قبل كتابة قصيدة واحدة، وأنا لست استثناءً من هذه القاعدة، يؤسفني أنه لا توجد "وصفة" للمستعجلين والمستعجلات".
توفي غازي القصيبي عن عمر يناهز السبعين عاما في يوم الأحد 5 رمضان 1431 هـ الموافق 15 أغسطس 2010 الساعة العاشرة صباحا في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض تاركا لنا الكثير منه وعنه وله. تاركا لنا "معارك بلا راية"، و"مائة ورقة من الورد والياسمين". حيث لا أهمية لـ"الرايات" وادعاءاتها طالما كل أوراق "الزهور" و"الياسمين" تتفتح. وهذا ما تشهد به اليوم ذكرى وفاته حين تفيض بالكثير من الحب. توفي القصيبي وهو الذي كان "لا يصدق أن هناك من يكرهه"، ثم يفترض يرحمه الله، "وإذا كان هناك من يكرهني فيعلم الله أني لم أفعل ما كرهني من أجله إلا حباً له وحرصاً على مستقبل أولاده".
## غازي في سطور
# الإصدارات الشعرية
أشعار من جزائر اللؤلؤ - مطبعة دار الكتب بيروت 1960م/1380هـ.
قطرات من ظمأ - مطبعة دار الكتب بيروت 1965م/1385هـ.
في ذكرى نبيل - مطبعة دار الكتب بيروت 1969م/1389هـ.
معركة بلا راية - مطبعة دار الكتب 1971م/1391هـ.
أبيات غزل - دار العلوم 1976م/1396هـ.
أنت الرياض - ط1 المكتب المصري الحديث - ط2 دار العلوم 1977م/1397هـ.
قصائد مختارة - دار الفيصل الثقافية 1980م/1400هـ. (مختارات من الدواوين الآتية: أشعار من جزائر اللؤلؤ، قطرات من ظمأ، في ذكرى نبيل، معركة بلا راية، أبيات غزل، أنت الرياض)
الحمى - الكتاب العربي السعودي 1982م/1402هـ.
العودة إلى الأماكن القديمة - دار الصقر المنامة 1985م/1405هـ.
المجموعة الشعرية الكاملة - ط1 دار المسيرة للطباعة والنشر، ط2 تهامة 1987م/1407هـ. (يحتوي على الدواوين الآتية: أشعار من جزائر اللؤلؤ، قطرات من ظمأ، معركة بلا راية، أبيات غزل، أنت الرياض، الحمى، العودة للأماكن القديمة)
ورود على ضفائر سناء - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1987م/1407هـ.
مرثية فارس سابق - الكتاب العربي السعودي 1990م/1411هـ.
عقد من الحجارة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1991م/1411هـ.
سحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1996م/1416هـ.
قراءة في وجه لندن - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1997م/1417هـ.
واللون عن الأوراد - دار الساقي 2000م/1420هـ.
يا فدى ناظريك - العبيكان 2001م/1421هـ.
الأشج - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2001م/1421هـ.
للشهداء - المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002م/1423هـ.
حديقة الغروب - العبيكان 2007م/1428هـ.
البراعم - دار القمرين 2008م/1429هـ.
#3#
# المناصب التي تولاها
أستاذ مساعد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود في الرياض 1965 / 1385هـ
عمل مستشارا قانونيا في مكاتب استشارية وفي وزارة الدفاع والطيران ووزارة المالية ومعهد الإدارة العامة.
عميد كلية العلوم الإدارية في جامعة الملك سعود 1971 / 1391هـ.
مدير المؤسسة العامة للسكك الحديدية 1973 / 1393 هـ.
وزير الصناعة والكهرباء 1976 / 1396 هـ.
وزير الصحة 1982 / 1402هـ
سفير السعودية لدى البحرين 1984 / 1404 هـ.
سفير السعودية لدى بريطانيا 1992 / 1412هـ.
وزير المياه والكهرباء 2003 / 1423هـ.
وزير العمل 2005 / 1425 هـ.