الفنان «أندي وارهول» .. مبتكر «السيلفي» الأول
"أرسم صورة لنفسي لأذكرها بأنني ما زلت موجودا". تلك العبارة التي تمعن في استيضاح الأزمة الوجودية هي للفنان الأمريكي أندي وارهول. أحد أهم رواد الفن الشعبي.الذي يتذكره الآخرون بأعمال شهيرة، مثل تلك الصورة المكررة بألوان متباينة وساطعة، لأهم المشاهير في حقبة الستينات كمارلين مونرو وإليزابيث تايلور.
هوس بالمشاهير
إلا أن من أشهر أعماله، لوحات شخصية له، استطاع من خلالها أن ينضم إلى ساحة المشاهير الذين افتتن بهم. تلك اللوحة الشخصية الشهيرة لأندي، يطفو فيها رأسه بملامح جدية صارمة، وعينين متسعتي الحدقة تحمل نظرة فارغة مخيفة، وشعر متطاير عشوائي، وخلفية داكنة تثير القلق. وكعادته في هذا اللون الفني الذي اختاره لنفسه، كرر "وارهول" إظهار الوجه مع اختلاف في اللون الذي يختاره لرأسه.
والسؤال هنا، ما هو ذلك الهوس الذي ألمّ به ودفعه إلى تكرار رسم نفسه؟ هو أقرب إلى الظاهرة التي سيطرت على عوالم الجيل الجديد، وهي ظاهرة السيلفي، أي التقاط الصور الشخصية لذاتك بتقريب الكاميرا، ومن ثم يتم نشرها غالباً عبر وسائل الإعلام الاجتماعية.
#2#
يذكرنا ذلك الإقبال المفرط على التقاط صور السيلفي، وتعزيزه للنرجسية الفردية، بتهافت أندي وارهول وتكراره الصورة ذاتها في إنتاجه. وذلك ليس بأمر مستغرب، فقد قام عدد من المهتمين بالفن بعقد مقاربات بين ثقافة السيلفي وأعمال وارهول. في إشارة إلى ذلك التشابه، تقول البروفيسورة سينثيا فريمان المختصة في فلسفة الفن: "إن كان وارهول حياً كان سيحب فكرة السيلفي".
أما رئيس المركز الدولي للتصوير "كريستوفر فيليبس"، فاعتبر ثقافة السيلفي لا تعد جديدة، واستشهد بأعمال وارهول كشخصية رائدة في اكتشاف السيلفي. ففي بداية الستينات بدأ أندي بأخذ عائدا ماديا لقاء رسم لوحات شخصية لسكان نيويورك. كل تلك الأعمال تصبو إلى معالجة معضلة انعدام رؤية العين للجسد. لتكون تلك اللوحات الشخصية أو الصور مرآة لرؤية المرء لذاته.
وحدة "السيلفي"
هل تعد محاولة إشراك الآخرين بصور للذات، كتلك التي يعكف عليها ملتقطو صور السيلفي، محاولة للقضاء على الوحدة؟ وكأن التقاط صورة لتلك الابتسامة أو التصرّف الآني تحاول نقل ما في الأعماق للآخرين للكشف عن الأعماق. على الرغم من أن أعمال أندي تظهر محاولة للصراخ ولفت الانتباه، إلا أنه يؤكد تفضيله الوحدة بقوله: "لا أعتقد أن هناك شيئا خاطئا بالبقاء وحيداً، فأنا أشعر بأنه شيء رائع". قد يكون ذلك نتيجة اعتياده الانعزالية، فقد كان أندي في طفولته شخصية انطوائية، دفعه مرضه بقلة انتظام الحركة والإنهاك الجسدي إلى أن يعكف على قراء الكتب المصورة، والرسم، وبالأخص رسم صور شخصيات سينمائية شهيرة.
#3#
بات تداول الصور بوفرة جزءاً مسيطراً في حياتنا، محاولة لتخليد حدث ما أو وجه ما خوفاً من فقدانه أو انغماره في غياهب النسيان. يعكف العديد على استخدام أجهزة تصوير وهواتف خلوية وأجهزة حاسوب بإدمان. ليستحيل الأمر من تقليدي صلد لأنشطة جماعية. يلتقط المرء الصورة ويرسلها لأصدقائه والمقربين منه، في محاولة لرصد اهتمام وتعليقات ساخرة أو داعمة تشعره بأنه مهم ولو للحظات. أما الفنان وارهول فقد تنبأ باستطاعة كل شخص أن يصبح شهيراً بكل سهولة، وأن يرى عدد كبير من الأشخاص صوره، بقوله: "في المستقبل، سيصبح كل شخص شهيراً لمدة 15 دقيقة". وقد اشتهرت فيما بعد عبارة "15 دقيقة من الشهرة". في إشارة إلى أن تسليط الأضواء على أي شخص بشكل مكثف، هو أمر لحظي، سيتلاشى لاحقاً وسينساه الآخرون. وكأن الجميع يحاولون لفت الانتباه بتداول تلك الصور.
عقيدة الجمال
"لم أقابل شخصاً لم أعتبره جميلاً قط". تلك العبارة تدل على انتماء أندي للفن الشعبي، الذي اشتهر في حقبة الستينات، حيث الاهتمام ليس بالفن نفسه وإنما بالسلوكيات التي قادت إليه. وذلك أقرب لنظرة أندي للجمال المكتنز في كل شخص. فقد واجه تلك النظرة التقليدية للفنون الجميلة، بأن على الفنان أن يكون مبدعاً فريداً في أعماله، بأن بحث عن المواد الأكثر شعبية واستخداماً. بل استفاد من نصيحة أحد أصدقائه المقربين، وهو مصمم الديكور مورييل لاتو، بأن ينتج لوحات "لشيء يراه الناس كل يوم، كحساء كامبل. وبكل حبور أرسل أحد معاونيه لإحدى المتاجر ليجلب له أنواعاً مختلفة لحساء كامبل لدراستها وتصور تصاميمها. استهلكته فكرة حساء كامبل. لا سيما أن لديه معنى حسي "كمستهلك دائم له". إذ كان يتناول ذلك الحساء فترة الغداء كل يوم لـ 20 عاماً. حتى أن شخصاً ما أخبره بأن "نظام حياته قد سيطر عليه، فتمكن منه". أعجبته تلك الفكرة بعدم تملكه زمام حياته. وفي عام 1962، كان أول معرض لتلك الفكرة الجنونية، حيث حوى 32 لوحة قماشية لعلب حساء كامبل، ساهمت في تعزيز حركة الفن العصرية في أمريكا في تلك الحقبة. أصبح وارهول من أهم رواد الفن الشعبي، ذلك الفن الذي يسبح في عالم الإعلانات والمشاهير والأخبار بحثاً عن لفت الانتباه. بطريقة بعيدة عن الاهتمام الشخصي بالأعمال وأقرب بتمجيد الإنتاج الاستهلاكي. حيث أنه اعتبر "كوكاكولا" على سبيل المثال، رمزاً عظيما لأمريكا، حيث أنه تعدى العوائق الاجتماعية، ليستهلكه كل من الفقراء والأغنياء على حد سواء.
الخزائن المغلقة
برع أندي وارهول في إنتاج أعمال تعبر عن الفن الشعبي، بإغراق في الحس الفني، واهتمام بإبراز فن المشاهير والإعلانات. من أشهر أعماله لوحة لمارلين مونرو، أنهى عملها بعد عدة أسابيع من وفاة مونرو في عام 1962، حيث ضمت 50 صورة لها، تعد تكراراً لصورة استخدمت لترويج فيلمها "نياغارا"، وانقسمت تلك الصور لنصف أيمن اقتصر على الأبيض والأسود، ونصف أيسر تلونت فيه الصور بألوان متنوعة. وكأن في ذلك إيحاء إلى التباين بين حياة مونرو ووفاتها، وإشارة إلى حياتها وإرث شهرتها. وصف الناقد الفني "آرثر دانتو" أندي بأنه "الأقرب لعبقرية فلسفية فنية أنتجها تاريخ الفن". بأعماله اللافتة، ومزج قريحته الفكرية بين الرسم والتصوير وإنتاج الموسيقى والأفلام.
تظل أعمال وارهول محط الأنظار، حيث تتناثر بكثرة تلك المعارض والكتب والأفلام الوثائقية التي تتطرق إليه وإلى أعماله الخالدة. هل كان فعلاً يبحث عن تلك الشهرة؟ قد يكون ذلك. إلا أنه يحاول أن ينقض تلك الفكرة دائماً. يتجلى ذلك في لقاء صحفي أجراه الإعلامي "إدوارد سميث" معه، في قناة بي بي سي، لعام 1981، سأله سميث: "هل تودّ أن ترى صورك معلقة في أكبر عدد من الجدران بقدر المستطاع؟" فأجابه دون تردد: "لا، بل أفضل أن أضعها داخل خزائن مغلقة". وكأنه يحاول أن ينفي ذلك التصور ببحثه المهووس إلى تسليط الأضواء عليه. فحقيقة آلامه أنه لا يزال شخصاً انعزالياً خجولاً، يهرب من الانغمار في واقع الحياة، مختبئا خلف أعماله علّها توصل صوته إلى الآخرين.