الدولار في طريقه لمواصلة الصعود أمام سلة العملات العالمية
تواصل العملة الأمريكية ارتفاعها في الأسواق العالمية في الوقت الذي أظهرت بيانات مشجعة أن الاقتصاد الأمريكي أوجد وظائف بأكثر من المتوقع في الشهر الماضي، مما يشير إلى تعافي الاقتصاد ومضيه بخطى ثابتة.
وقفز سعر الدولار لأعلى مستوى له منذ أربع سنوات، كما بلغ للمرة الأولى منذ ستة أعوام 110 ينات تقريبا، وارتفع في مواجهة اليورو إلى 1.25 وهو أعلى سعر يحققه في وجه العملة الأوروبية منذ عامين.
ويعزز التفاؤل الراهن تجاه مستقبل الدولار قناعة البعض بأنه لا توجد حتى الآن أي مؤشرات على أن العملة الأمريكية ستتراجع أمام العملات الدولية الأخرى في المستقبل القريب.
وأوضح تيرنر كول نائب رئيس قسم استراتيجية العملات في مجموعة مورجان ستانلي لـ "الاقتصادية"، أن الارتفاع الراهن في قيمة الدولار في وجهة سلة العملات العالمية، لن يكون ارتفاعا مؤقتا، وأعتقد أن هذا هو الاتجاه الذي ستشهده سوق العملات الدولية خلال العامين المقبلين.
وحول النسبة التي يتوقع أن يرتفع بها الدولار أمام العملات الأخرى مستقبلا قال كول إن نسبة 5 في المائة خلال الأشهر الستة المقبلة نسبة منطقية وواقعية، ولا أعتقد أنه سينخفض عنها بل ربما يتجاوزها.
ويعتقد البعض أن أسباب ارتفاع قيمة العملة الأمريكية تتجاوز حاليا مسألة البيانات الإيجابية بشأن التوظيف، وترتبط أكثر بقناعات سائدة في الأسواق المالية والاقتصادية بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي "المركزي الأمريكي" مقبل على تغييرات في سياسته المالية.
فقيمة الدولار شهدت منذ بداية شهر أيار (مايو) الماضي وحتى الآن ارتفاعا بنحو 9 في المائة ويرتبط ذلك باحتمال رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة نتيجة التحسن المطرد في الأداء الاقتصادي، إضافة إلى إعلان واشنطن أن برنامج التيسير الكمي سينتهي في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، مما يؤكد قناعات العديد من الاقتصاديين بأن التحسن في معدلات نمو الاقتصاد الأمريكي أصبح أكثر ثباتا وديمومة.
#2#
في الوقت ذاته تشهد القارة الأوروبية وتحديدا منطقة اليورو صعوبات جمة في الخروج من أزمتها الاقتصادية، وترافق ذلك مع تراجع معدلات النمو في الصين واليابان، وهو ما يدفع إلى توقعات بشأن تبني تلك البلدان سياسة مالية أكثر ليونة، ويضع ضغوطات سلبية على قيمة عملتها المحلية.
ويعتقد عدد من خبراء المال أن أكثر العملات تضررا خلال العام المقبل من الارتفاع المتواصل في قيمة الدولار هما اليورو والين الياباني، وبالفعل فإن العملة الأوروبية شهدت في أيلول (سبتمبر) الماضي أكبر انخفاض في تاريخها حيث فقدت نحو 4 في المائة من قيمتها أمام الدولار، وازداد وضعها سوءًا خلال الأسابيع الماضية نتيجة التقارير السيئة حول تدهور الإنتاج الصناعي في بلدان منطقة اليورو إضافة إلى تراجع معدلات التضخم.
لكن الصورة الناجمة عن ارتفاع الدولار لا تبدو وردية بالنسبة للجميع بما فيها الولايات المتحدة، حيث تعتبر جين بابز الخبيرة الاقتصادية والاستشارية لدى لجنة السياسات المالية في بنك إنجلترا، أن الفائدة التي تعود على الاقتصاد الأمريكي، جراء ارتفاع قيمة الدولار في مواجهة العملات الدولية لا تزال إيجابية حتى الآن، وتمثل حافزا للعملية الإنتاجية، إذ يمكن تمويل احتياجات أمريكا من المواد الخام أو المواد شبه المصنعة بتكلفة أقل، لكنها تتشكك في إمكانية مواصلة تحقيق هذه الفائدة.
وأضافت بابز لـ "الاقتصادية"، أنه إذا ما واصل الدولار ارتفاعه فإن هذا سيرفع من التكلفة النهائية للسلع الأمريكية مقيمة بالعملات الدولية الأخرى، وسيضعف هذا من الطلب على المنتجات الأمريكية، ويؤدي إلى تراجع الصادرات.
#3#
ولا تبدو الصورة المستقبلية إذا ما واصل الدولار الارتفاع سلبية لواشنطن فقط، بل إن لها انعكاسات مباشرة على الاقتصاديات الناشئة، بما قد يؤدي إلى تراجع معدلات النمو لديها، فارتفاع الدولار في مواجهة العملات الدولية إذا ما تواكب مع ارتفاع في أسعار الفائدة المصرفية في أمريكا، فسيؤدي إلى موجة نزوح لرؤوس الأموال الأجنبية من الاقتصادات الناشئة لإعادة التوطن والاستثمار في الأسواق الأمريكية، مما يدفع بمعدلات النمو الاقتصادي في الأسواق الناشئة للانخفاض، ويضع عليها المزيد من الضغوط الاقتصادية.
وسعى العديد من المستثمرين للاستفادة من انخفاض معدلات الفائدة الأمريكية، عبر الاقتراض من المصارف الأمريكية والاستثمار في سندات الخزانة ذات العائد المرتفع في الأسواق الناشئة، مثل تركيا وبولندا والمجر وجنوب إفريقيا.
وتشير دراسة لبنك التسويات الدولي إلى أن ملكية الأجانب في سندات الخزانة المحلية في الاقتصادات الناشئة ارتفع من 8 في المائة عام 2007 إلى 17 في المائة بحلول عام 2012، ووصلت هذه النسبة في الاقتصاد الماليزي إلى 45 في المائة ونحو 35 في المائة في بولندا والمجر والمكسيك وإندونيسيا.
لكن هذا الوضع من الحتمي أن يشهد تغيرا عكسياً، وقد بدأت البوادر تظهر الآن بانسحاب المستثمرين الأجانب من تلك البلدان مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، إذ لن تفلح عوائد الاستثمار في الأسواق الناشئة من تغطية تكلفة سعر الفائدة الأمريكي.
ويعتبر البعض أن مواصلة الدولار للارتفاع ستؤدي إلى زيادة قيمة إجمالي الدين الخارجي في الاقتصادات الناشئة، لأن أغلب ديون تلك الاقتصادات مقيمة بالدولار ومن ثم فإن ارتفاع قيمة العملة الأمريكية يؤدي إلى ارتفاع القيمة الإجمالية للدين الخارجي إضافة طبعا إلى زيادة مصاريف خدمة الدين، وهو ما يمثل استنزافاً للميزانية العامة لتلك البلدان.
وحذرت مجموعة "مورجان ستانلي" من الوضعية الراهنة للديون الخارجية في الاقتصادات الآسيوية الناشئة، فقد ارتفعت القيمة الإجمالية لديون تلك المجموعة من البلدان من 300 مليار دولار إلى 2.5 ترليون دولار خلال عقد من الزمان، وهو ما يفوق الناتج المحلي الإجمالي لإندونيسيا والمكسيك معا.
وتكشف هذه الأرقام حجم الهشاشة في العديد من الاقتصادات الناشئة، حيث ترجع الزيادة في قيمة الديون الخارجية إلى زيادات استثمارية حقيقية عبر شراء السندات الحكومية ذات العائد المرتفع في هذه البلدان، إلا أن جزءا كبيرا منها يعود أيضا إلى ارتفاع قيمة العملة الأمريكية ذاتها.
ومع هذا فإن بعض الاقتصاديين يعتقدون أن هناك جوانب إيجابية قد تعود على الاقتصادات الناشئة جراء الزيادة المتواصلة في قيمة الدولار، ويرى الدكتور مارتن بل الأستاذ السابق في مدرسة لندن للاقتصاد والمستشار الحالي لمجموعة من الشركات الاستثمارية الدولية، أن ما يشار إليه عادة من تأثير سلبي لارتفاع قيمة الدولار على الاقتصادات الأخرى أمر متوقع الحدوث، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن زيادة التكلفة الإنتاجية للسلع الأمريكية يؤدي حتما لفتح أسواق جديدة للمنتجات الاقتصادية للأسواق الناشئة، لأنها ستكون أقل تكلفة إنتاجيا، ولا نستطيع أن نقول إن هذا سيعوض إجمالي الخسائر الناجمة عن تدهور العملات المحلية في مواجهة الدولار الآخذ في الارتفاع، لكنها ستؤدي لتعويض جزء من الخسائر.
بيد أن الأسواق لا تبدو حتى الآن معنية بهذا الجانب الإيجابي الذي يشير إليه الدكتور مارتن، فالعملات المحلية في الأسواق الناشئة تبدو في مأزق أمام الارتفاع المتواصل للدولار، حيث تدنت قيمة العملة البرازيلية في مواجهة الدولار لأدنى مستوى لها منذ عام 2008، فيما خسر الروبل الروسي 20 في المائة من قيمته منذ بداية هذا العام، ويلامس الروبل في مواجهة الدولار الآن السقف الذي قد يدفع البنك المركزي الروسي إلى التدخل للدفاع عنه، ومنعه من مواصلة الانزلاق لمستويات أقل من ذلك.
وتفضل بعض المصارف المركزية التدخل بشكل مبكر في أسعار الصرف لمنع عملتها الوطنية من المزيد من التراجع أمام الدولار، وتعد إندونيسيا نموذجا بارزا على ذلك، إذ انخفضت الروبية الإندونيسية بنحو 1 في المائة أمام الدولار لتصل لأدنى مستوى منذ سبعة أشهر وهو ما دفع البنك المركزي للتدخل.
وربما يعكس تأثير ارتفاع الدولار على العملات الوطنية في الاقتصادات الناشئة خللا جوهريا في بنية تلك الاقتصادات، فقد نجحت في الاستفادة "المالية" خلال سنوات تراجع قيمة العملة الأمريكية، لكن الاستفادة "المالية" لم تنعكس على اقتصاداتها بشكل حقيقي، وهو ما تدفع ثمنه الآن مع ارتفاع قيمة الدولار وانسحاب المستثمرين الأجانب منها.