الأزمة الأوكرانية تكشف هشاشة أمن الطاقة الأوروبي
كشفت الأزمة الأوكرانية للأوروبيين عن مدى هشاشة ملف "أمن الطاقة " بالنسبة لهم، وكانت الحاجة إلى الغاز الروسي عاملا رئيسا في ألا تفرط العواصم الأوروبية، خاصة برلين، في فرض العقوبات على موسكو، جراء موقفها وتصرفاتها في تلك الأزمة.
ويشير موقع المفوضية الأوروبية للطاقة على شبكة الإنترنت إلى طموحات أقل مما جاء في بيان قادة الاتحاد، إذ تهدف المفوضية إلى أن تبلغ مساهمة الطاقة المتجددة نحو 20 في المائة من إجمالي الطاقة المتولدة في بلدان الاتحاد بحلول عام 2020.
وتأتي تصريحات خوسيه مانويل باروزو الذي أشرف على الاتفاق الأخير بين روسيا والاتحاد الأوروبي قبل أن ينهي مهام رئاسته للمفوضية بأنه لا يوجد سبب ليشعر الناس بالبرد هذا الشتاء في أوروبا دليلا على مدى اعتماد القارة العجوز على الغاز القادم من موسكو.
وحصلت القارة الأوروبية في العام الماضي على ثلث احتياجاتها من الغاز من روسيا، أي ما يعادل 160 مليار متر مكعب من الغاز، وقرابة 40 في المائة من تلك الاحتياجات عبر الأنابيب الأوكرانية.
وقطعت موسكو الغاز عن أوروبا في شهر حزيران (يونيو) الماضي لتثير حالة من الفزع خشية تكرار أزمة الطاقة، التي اجتاحتها في عامي 2006 و2009، ولكن ما الذي يمكن أن تقوم به أوروبا لمواجهة هذا التحدي؟
البروفسير بوب ماك كول من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة يعتقد أنه في الوقت الراهن لا يوجد حلول سريعة أمام أوروبا للتغلب على هذا التحدي، موضحاً لـ "الاقتصادية" أن على الأوروبيين وضع استراتيجية مستقبلية طويلة الأمد، مشدداً على أنه لا توجد حلول فردية لمشكلة الطاقة في أوروبا، ولا بد من طرح حل جماعي مشترك، لأنه إذا عملت كل دولة بمفردها فربما تفلح في إيجاد حل نسبي مؤقت، ولكن لن يكون هناك حل دائم إلا في إطار استراتيجية موحدة، مضيفاً أن علينا أن نتذكر أنه بحلول عام 2030 ستظل أوروبا في حاجة إلى 100 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الروسي.
المؤيدون لفكرة الاستراتيجية الأوروبية الموحدة لتحقيق "أمن الطاقة"، يراهنون على قدرة البلدان عالية الاعتماد على مصادر الطاقة الخارجية على خفض حاجتها للغاز الروسي في السنوات الأولى من العشرينية الثانية من هذا القرن، عبر ربط البلدان الأوروبية بشبكة موحدة من أنابيب الغاز، تمكنها من التعاون للتغلب على أي نقص يعتري أحد بلدانها من مصادر الطاقة، ويبقى السؤال، من سيتحمل التكلفة؟
وتبدو الإجابة عن هذا التساؤل محيرة ومعقدة في نظر عدد كبير من الاقتصاديين، فالدكتور أندرو هيل الاستشاري السابق في صندوق النقد الدولي يعتقد أن فكرة ربط أوروبا بشبكة من الأنابيب لمواجهة تحديات الطاقة التي تواجهها فكرة طموحة إلا أنها غير واقعية في الوقت الراهن.
وأضاف هيل لـ"الاقتصادية" أن هناك بعض الدراسات التي قام بها الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، ونمتلك أرضية عملية لتطبيقها، لكن مشكلة التمويل تعد مشكلة أساسية، فالأوضاع الاقتصادية في مجمل بلدان الاتحاد الأوروبي خاصة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا سيئة للغاية ومعدلات النمو في تراجع، ومشروع بهذا الحجم سيتكلف عدة مليارات، وغالبا لن تستطيع البلدان الأوروبية ضعيفة النمو كبلدان جنوب أوروبا وبعض بلدان أوروبا الشرقية تمويل المشروع، والألمان لن يكونوا مستعدين حاليا لمشروع بهذه الضخامة.
وأشار هيل إلى أن أزمة الطاقة الأوروبية ليست متعادلة بمعنى أن حدتها تختلف من بلد لآخر، وفقا لدرجة الاعتماد على الاستيراد خاصة من روسيا، وبريطانيا أقلهم، إذ تعتمد على الغاز القطري، ومن ثم لن تكون بحاجة إلى هذا المشروع مثل ليتوانيا وبولندا وألمانيا مثلا، وفي ظل الاحتكاك القائم بين برلين ولندن حول عضوية الأخيرة في الاتحاد الأوروبي، فأستبعد أن تكون الحكومة البريطانية جاهزة للمشاركة في تمويل مشروع بهذه التكلفة المالية الضخمة.
وتدفع هذه الشكوك بشأن إمكانية تمويل خط أنابيب أوروبي موحد البعض إلى طرح تنوع مصادر استيراد الطاقة كحل للأزمة، لأن موارد أوروبا من الطاقة التقليدية "النفط والغاز" في تراجع مستمر، وآفاق الغاز الصخري لا تبدو بذات الدرجة من الانتعاش، كما هو الحال في الولايات المتحدة، وذلك لقوة وتأثير منظمات الدفاع عن البيئة في البلدان الأوروبية، مقارنة بنظيرتها في أمريكا.
ويقول الباحث بوب آرثر من شركة سان ليون للطاقة لـ "الاقتصادية"، إنه يمكن لأوروبا زيادة الاعتماد على الغاز القادم من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أن المشكلة تكمن في عدم الاستقرار السياسي، وما يسببه ذلك من اضطراب في عملية الإمداد، ولهذا لا يبدو غريبا أن بعض الأصوات تتصاعد الآن بمزيد من الاعتماد على الفحم، إلا أن هذا الاتجاه يواجه بمعارضة شديدة، نظرا لتأثيره السلبي في الأهداف الدولية لخفض الانبعاث الحراري.
وعلى الرغم من ذلك، فإن البعض يرجح أن يظل الفحم أحد الحلول المطروحة للتصدي لمخاطر أمن الطاقة في أوروبا، إلا أن هذا الحل أيضا لن يكون حلا شاملا للجميع، وتقود بولندا حاليا الاتجاه الأوروبي للنظر في إمكانية الاعتماد على الفحم كمصدر للطاقة، فبولندا هي ثاني أكبر منتج ومستهلك للفحم في التكتل الأوروبي.
وصرح اكتوين زاجك الاستشاري في الحكومة البولندية في مجال الطاقة لصحيفة الفايننشال تايمز أخيرا قائلا، إنه سيكون من الصعب للغاية سياسيا واقتصاديا أن تنهي بولندا اعتمادها على الفحم كمصدر أساسي للطاقة، وعلى رأس أولويتنا في الأجل المتوسط ليس التخلص من الفحم كمصدر للطاقة، ولكن أن ننتج الفحم بتكلفة اقتصادية مبررة.
وبالتأكيد هذه ليست وجهة نظر كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي الساعين إلى خفض المزيد من الانبعاثات الحرارية بحلول عام 2030، لكن في المقابل لا تقف بولندا بمفردها، فجمهورية التشيك، وبلغاريا تؤيدان الاعتماد على الفحم، خاصة أن التحول إلى مصادر بديلة للطاقة وتحديدا الغاز يضع اقتصاداتهم تحت رحمة الكرملين، بل أيضا يرفع فاتورة الطاقة في الميزانية العامة بما يعادل 120 في المائة بالنسبة لبولندا على سبيل المثال.
وتكشف الأرقام أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يعتمد بدرجة ملحوظة على الفحم لتوليد الطاقة، فنحو 27 في المائة من إجمالي الطاقة في دول الاتحاد تولد عن طريق الفحم مقارنة بـ 40 في المائة على المستوى العالمي، ويأتي الفحم كمصدر للطاقة في الاتحاد بعد الغاز الطبيعي.
وأشار الدكتور ديريك بويكت المختص في شؤون الطاقة، إلى أنه بين عامي 1990 و2009 تراجع استخدام الفحم في أوروبا بنحو 40 في المائة، بسبب أن المستخدمين الرئيسين، المملكة المتحدة وألمانيا التزما بتعهداتهما الدولية وخفضا استخدامهما للفحم لخفض الانبعاثات الحرارية الملوثة للبيئة، إلا أن هذا الالتزام مبعثه توافر القدرة المالية لأقوى الاقتصادات الأوروبية، لتحويل شبكة الطاقة الداخلية للاعتماد على مصادر مولدة للطاقة أقل تلويثا للبيئة كالغاز على سبيل المثال، هذه القدرة تغيب عن العديد من الاقتصادات الأخرى.
وأضاف أن تزايد إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز الصخريين، أدى إلى تراجع ضخم في أسعار الفحم الأمريكي، ومن ثم أعتقد أن بعض بلدان أوروبا ستواصل الاعتماد على الفحم في ظل غياب محفزات اقتصادية ضخمة لتغيير أساليب توليد الطاقة لديها".
وبصفة عامة يلاحظ أن استهلاك ألمانيا من الفحم آخذ في الارتفاع منذ عام 2010 بعد أن قامت حكومة المستشارة ميركل بإغلاق جميع محطات الطاقة النووية، ويرجح البعض أن تراجع معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا سيدفعها للسعي بكل السبل إلى خفض فاتورة الطاقة لديها، على أمل أن يساهم ذلك في خفض تكلفة الإنتاج الصناعي، ومن ثم قدرتها على فتح أسواق جديدة لمنتجاتها في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها من الصين، وانخفاض تكلفة الإنتاج لديها، وربما يكون ذلك أحد المبررات التي قد تدفع بالحكومات الأوروبية إلى النظر إلى الفحم كبديل اقتصادي في مجال الطاقة، خاصة في ظل انخفاض أسعاره وتوافره محليا بكميات كبيرة.
ولكن ماذا عن مصادر الطاقة المتجددة كالرياح والطاقة الشمسية؟، هل يمكن أن تمثل طوق نجاة لأوروبا من الابتزاز الدائم للدب الروسي؟