الأزمة الاقتصادية تستفحل في روسيا رغم تعويم «الروبل»
في خطوة غير متوقعة، أعلن البنك المركزي الروسي تعويم الروبل لوقف نزيف سعر صرفه بعد أن خسر 45 في المائة من قيمته تقريبا أمام الدولار منذ نشوب الأزمة مع أوكرانيا.
الخطوة وان جاءت متأخرة بعض الشيء، إلا أنها بحسب خبراء مختصين تضمن الحفاظ على عشرات إن لم يكن مئات المليارات من دولارات الاحتياط النقدي الروسي، التي كان يمكن استنزافها بضخها في الأسواق لإنقاذ العملة الروسية من التراجع دون أن يحول ذلك من مزيد من التدهور في قيمة الروبل.
الاحتياطي النقدي الروسي وخلال الـ11 شهرا الماضية تراجع من 510 مليارات دولار بداية العام إلى 400 مليار الآن، الخسائر كانت ناجمة في اغلبها عن محاولة لإنقاذ العملة الوطنية من الانخفاض في مواجهة العملات الدولية، إلا أن تلك المساعي كانت في نظر البعض جهود يائسة لوقف تدهور الروبل.
والآن وبعد أن تغلب صوت العقل على الأحاسيس والمشاعر القومية الزائفة قرر البنك المركزي الروسي ترك الروبل لمصيره، وأن تحدد قيمته عبر العرض والطلب، خطوة تعني في نظر البعض مزيدا من التراجع المتوقع في قيمة الروبل، لكنها على الأقل تضمن الحفاظ على احتياطي النقد الوطني دون خسارة الاثنين معا.
ولـ"الاقتصادية" يعلق برنارد ويليس مدير مكتب صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية السابق في موسكو قائلا: "إن تأتي الخطوة متأخرة أفضل مما لا تأتي، وقد رحبت الأسواق بقرار المركزي الروسي وارتفعت قيمة الروبل بأكثر من 3.5 في المائة، لكنه ارتفاع مؤقت لن يدوم، لأن أسباب انخفاض الروبل كامنة في الاقتصاد الروسي".
وإذ يعتقد البعض أن الوضع الاقتصادي المتدهور لروسيا حاليا يعود إلى عاملين أساسيين الأول هو العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة عليها من جراء الأزمة الأوكرانية، والآخر التراجع الحاد في أسعار النفط التي بلغت نحو 25 في المائة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، فإن اقتصاديين دوليين آخرين ينظرون إلى القضية من منظور مختلف، البروفيسور ديفيد نيل المختص في الاقتصاد الروسي والاستشاري لعدد من الشركات الاستثمارية الغربية في روسيا، لا ينكر تأثير العقوبات الدولية وتراجع أسعار النفط، لكنه يشير إلى أن الأزمة الاقتصادية الروسية بدأت قبل فترة طويلة من العقوبات الدولية وانخفاض سعر برميل البترول. ويؤكد البروفيسور ديفيد نيل أن النموذج التنموي الروسي وفقا للمعطيات الداخلية مليء بالثغرات، وان الأزمة الأوكرانية وغضب واشنطن وبروكسل من المواقف الروسية وانخفاض قيمة الذهب الأسود أظهرت عورات النظام وفجرتها ولم تخلقها، ويركز البروفيسور ديفيد على ثلاثة عوامل يعتبرها كامنة في بنية الاقتصاد الروسي ويحملها المسؤولية عن الأزمة، حيث قال لـ"الاقتصادية": "هناك ضعف هيكلي في بنية المؤسسات الروسية وكذلك في البيئة الاقتصادية، فروسيا احتلت المرتبة 133 من 144 دولة فيما يتعلق بالتنافسية عام 2012 - 2013، وتمتلك موسكو مزيجا قاتلا من عدم الشفافية والفساد، وتحتل المرتبة الأولى في الفساد، مقارنة بالبلدان ذات المستوى الاقتصادي المشابه لها. بل وتسبق أوغندا وتوجو في معدلات الفساد الذي أضحى مؤسسة متكاملة تلعب دورا مهما في تحديد معدلات النمو وسبل توزيع الدخل" ويضيف " ثانيا ضيق فرص الصعود الاقتصادي، ففي بعض التخصصات، فإن نحو 50 في المائة من الخبراء فيها يرغبون في الهجرة، وخطورة هذا الاتجاه إنه لا يقضي فقط على البنية الأساسية للقوى الإبداعية، وهي حجر الزاوية في الاقتصاد الحديث، ولكن الخطورة أنها تؤدي إلى خفض الاستهلاك المحلي لأن هؤلاء الخبراء هم من أصحاب الدخول المرتفعة في المجتمع، والأخطر أن ذلك يمثل عاملا لنفور الاستثمارات الأجنبية لأن تكلفة الحصول على خبرات عالية في روسيا يصبح مع مرور الوقت مكلفا، ويزيد ضغوط الميزانية على المستثمر الأجنبي".
ووفقا للبروفيسور ديفيد فإن السبب الثالث ينبع من هذين العاملين وهو العلاقة الترابطية بين إنتاج النفط والمنظومة الاقتصادية وهو ما يعتبره نتيجة حتمية لفشل النظام الاقتصادي الروسي في تطوير قطاعات بديلة رغم ما ورثه عن النظام السوفياتي السابق من بنية صناعية في العديد من المجالات.
الأزمة الاقتصادية المتصاعدة التي تواجهها موسكو بدأت ملامحها تبرز في عدد من السلوكيات من قبل الكرملين، فسرها البعض بأنها محاولة استباقية من قبل بوتين للضغط على رأس المال المحلي وكبار الرأسماليين الروس لعدم اتخاذ مواقف "متخاذلة" وغير داعمة لرؤيته بما يزيد الطين بلة. فالتخوف الأكبر لدى الكرملين يكمن في فرار رأس المال المحلي، وقد اعتقلت السلطات الروسية الملياردير فلاديمير يافيشنكف بتهمة غسل الأموال، ويحتل الرجل وفقا لمجلة "فوربس" المرتبة رقم الـ15 بين أثرياء روسيا، وقد أثار اعتقاله الكثير من الضوضاء حتى داخل مراكز صنع القرار السياسي، حيث أبدى وزير الاقتصاد الروسي امتعاضه. ويعتقد العديد من الخبراء أن تلك الخطوة رسالة واضحة لجميع كبار رجال الأعمال بألا تنتابهم الشكوك بأن قبضة الدولة قد تراخت حتى وإن كانت في أزمة اقتصادية.
وبالفعل فإن الوضع الراهن وانخفاض القدرة التمويلية للحكومة الروسية مقارنة بفترات الانتعاش الاقتصادي، دفعت بسيد الكرملين إلى تبني إجراءات اقتصادية أكثر انحيازا لأنصاره على حساب رجال الأعمال. فالقاعدة الانتخابية لبوتين تتمثل في موظفي الدولة، وبالفعل قد زادت مخصصات وزارة الدفاع والقطاعات الاقتصادية الأخرى التابعة للدولة بنحو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في ميزانية العام المقبل أي ما قيمته 80 مليار دولار.
وعلق لـ"الاقتصادية" جون كاي الاستشاري في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير قائلا: "ما قام به الكرملين من زيادة مخصصات القطاع العام إجراء لا يضع حسابات الكفاءة الاقتصادية في الحسبان وإنما ينحاز للسياسة على حساب الاقتصاد" ويضيف، "قد يكون في مقدار النظام الروسي قمع الرأسمالية المحلية وابتزازها لضخ المزيد من الاستثمارات في السوق المحلي، ولا شك أن هذا سيمنح النظام قبلة الحياة، لكنه سيظل في حالة من الوهن والضعف، كما أنه لن يستطيع ممارسة هذا النوع من الضغوط على الاستثمارات الدولية، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية سيبعث برسالة سلبية دوليا حول طبيعة الأزمة الروسية وعمقها، وعملية استعادة الثقة عملية مكلفة ليس فقط اقتصاديا، وإنما سياسيا أيضا وهو ثمن لا يرغب بوتين في دفعه حتى الآن".
ويرجح الخبراء أن تداخل العاملين الاقتصادي والسياسي في روسيا بدرجة كثيفة يمثل أيضا أحد أبرز التحديات التي تعوق عملية المواجهة والخروج من الأزمة الاقتصادية، ووفقا لتلك الرؤية فإنه في لحظات التنمية والاندفاع الاقتصادي تعزز معدلات النمو المرتفعة من قوة الدولة، أما عندما تبدأ المشكلات بين الدولة والعالم الخارجي في البروز فإن الاقتصاد يعاني بشكل حاد، فشركة مثل بلاك أستون (أكبر شركة إدارة أصول في العالم وتقدر قيمة ما تديره بنحو خمسة تريليونات دولار، وقد شاركت الشركة أخيرا في جلسة استكشافية عقدت في لندن برئاسة الشيخ شرف الحريري للتعرف على آفاق الاستثمار في سوق الأوراق المالية في السعودية في ظل القوانين الجديدة) وشركة Adobe للبرمجيات انسحبتا من الأسواق الروسية.
وترجح أكثر الآراء الاقتصادية أن الأزمة الروسية ستستفحل في الفترة المقبلة وتزداد حدة، إلا أن الجميع تقريبا يتفق على أن روسيا لا تزال تمتلك عديدا من أوراق اللعب، التي ستمكنها من البقاء على طاولة الاقتصادات الكبرى في العالم، فاحتياطي مالي يبلغ نحو 400 مليار دولار سيحول حتما دون ملامستها للقاع. ومع هذا فإن الاحتياطي النقدي قد يمكنها من التصدي للأزمة، أما الخروج منها واستعادة قوة الدفع السابقة فإنه يتطلب أكثر من ذلك، وتحديدا نمطا تنمويا جديدا يتعامل بواقعية مع نقاط القوة والضعف للاقتصاد الروسي، وبما يسمح للأسواق والمستثمرين المحلين والأجانب بالتحرك وفقا لقوانين الاقتصاد بعيدا عن التدخلات والاحتياجات المؤقتة للسياسة والسياسيين.