«داعش» الباقية
في 1997 ظهر شبيه لـ "داعش" في الجزائر. لم يعلن دولة أو خلافة، لكن عمله الميداني وخطابه الديني لم يكن مختلفا عن "داعش". تلاشت الظاهرة الجزائرية بعدما طبقت الحكومة قانون الوئام الوطني لعام 1999، ثم قانون المصالحة الوطنية 2005. طبقا لبيانات رسمية، فإن عدد الذين سويت أوضاعهم بلغ 17 ألف مسلح، عدا المئات الذين قتلوا في مواجهات مع الجيش. بعبارة أخرى فإن الحجم المادي للظاهرة الجزائرية كان أكبر من شبيهتها "داعش"، لكنها مع ذلك أخفقت في مواجهة تيار الحياة المدنية الجارف، رغم مقاومتها الشرسة لما يزيد على سبعة أعوام.
نعلم من هذا، ومن تجارب شبيهة، أن الحياة الحديثة لا تسمح ببقاء دولة مثل دولة "داعش". هذا لا يتعلق فقط بالنظام الدولي، بل أيضا بالحاضن الاجتماعي المحلي وحركة الاقتصاد والسياسة في أبعادها المختلفة والمعقدة. ولئن كانت الظروف الحرجة الراهنة في العراق وسورية قد أفرزت نشازا سياسيا من هذا النوع، إلا أن منطق الأمور لا يسمح له بالاستمرار فترة طويلة.
سواء انتهينا من دولة "داعش" اليوم أو غدا، فلا ينبغي أن نغفل عن حاضنها الثقافي – الاجتماعي، أي الذهنية الفردية أو الجمعية التي تنظر إلى نموذج "داعش" كعلاج مؤكد أو محتمل لمشكلة يشعر بها الناس. وليس مُهمًّا أن تكون هذه المشكلة حقيقية أو متوهمة. المهم أنها تشغل أذهان الناس، ويشعرون بالحاجة إلى علاجها بأي طريقة.
السؤال الذي يستحق أن نتأمله بجدية وتركيز هو: ما المشكلات التي تشغل أذهان الناس على نحو يجعلها مهيأة لقبول نموذج الحل الذي تمثله "داعش" أو تقترحه؟
يذهب ذهني إلى عدة احتمالات، لكن أبرزها في ظني اثنان، أحدهما محلي ينطبق خصوصا على الوضع في المملكة، والآخر أكثر عمومية. المشكلة الأولى هي الرغبة في اكتشاف الذات وتحقيقها، وهذه تخص الشباب. أما الثانية فهي مشكلة العجز عن التعامل مع ما يعتقد من تغول الغرب ضد العالم الإسلامي.
الدواء الأنجع للمشكلة الأولى هو جمعيات العمل المدني التطوعي. أما المشكلة الأخرى فهي أكثر تعقيدا، وهي أقرب إلى فحوى التفسير الرسمي لظاهرة التطرف، أي ما يسمى الغلو في الدين. لكن العلاج ليس بالنصائح وسرد الآيات والروايات الدالة على الوسطية، بل بتطوير خطاب ديني جديد يركز خصوصا على ظاهرة التنوع الثقافي والعلمي والسياسي، ودور المسلم في العالم الجديد، وسبل استثمار التنوع وعولمة الثقافة والاقتصاد. بعبارة أخرى فنحن بحاجة إلى صياغة جديدة لمفهوم العلاقة مع المختلف سياسيا ودينيا، ولا سيما الغرب الذي ينظر إليه كقوة عدوان ذات واجهة سياسية ومضمون أو محرك ديني (مسيحي غالبا). وتبعا لهذا تطوير رؤية عصرية لقيمة الجهاد والدعوة، ودور الأفراد والجماعة المسلمة في هذا السياق.