«بنوك الظل» تهدّد النظام المالي العالمي بإجمالي أصول 75 تريليون دولار
قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية بقرابة عام، ألقى بول مكالي الاقتصادي الشهير كلمة في المنتدى المالي السنوي لـ"الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي، استخدم بول خلالها ولأول مرة في تاريخ علم الاقتصاد مصطلح "بنوك الظل"، ومنذ ذلك اليوم أصبح المصطلح جزءا لا يتجزأ من فهم آليات عمل النظام المالي العالمي.
وأخيرا كشف التقرير الذي أصدرته هيئة الاستقرار المالي (جهة دولية تراقب وتصدر توصيات حول النظام المالي العالمي أسست عام 2009 في أعقاب قمة مجموعة العشرين المنعقدة في لندن)، أن القدرات المالية لبنوك الظل حول العالم بلغت عام 2013 ما يقارب 75 تريليون دولار أمريكي.
ولعل الأهمية لا تكمن في هذا الرقم وحده على الرغم من فلكيته بأي معيار اقتصادي، وإنما تكمن أيضا في المسار التصاعدي لهذه الظاهرة، فالقدرات المالية لبنوك الظل عند طرح المصطلح للمرة الأولى لم تتجاوز خمسة تريليونات دولار، والآن أصبحت القدرات المالية لهذه المنظومة تمثل نحو 25 في المائة من إجمالي الأصول المالية في العالم، ونحو 50 في المائة مما يمتلكه النظام المصرفي في العالم، والأكثر خطورة أن ما تمتلكه يوازي 120 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لشعوب الكرة الأرضية قاطبة.
وقد دفع التضخم الجاري للقدرات المالية لبنوك الظل، هيئة الاستقرار المالي إلى التحذير من مغبة ذلك، ليس على النظام المالي العالمي "التقليدي" فحسب وإنما من خطورته على هيكل الاقتصادي العالمي.
الدكتورة سوزي كيلي أستاذة النقود والبنوك في جامعة كمبريدج، والاستشارية لدى هيئة الاستقرار المالي، تعتبر أن بنوك الظل تعبير يمكن أن يطلق على جميع الكيانات التي تقع خارج نطاق النظام المصرفي الخاضع للتنظيم، وتؤدي الوظيفة الرئيسة التي تقوم بها البنوك، وهي أخذ الأموال من المدخرين وإقراضها للمقترضين، ويبدو التعريف واسع النطاق ويتضمن بذلك محافظ أسواق المال وأدوات الاستثمار الهيكلية ومحافظ الاستثمار الائتمانية والتورق وشركات التمويل وغيرها من المؤسسات المالية التي أصبحت لها تأثيرات يومية في حياتنا المالية.
وأشارت كيلي لـ"الاقتصادية"، إلى أن الوساطة الائتمانية من خلال قنوات غير مصرفية يمكن أن يكون لها مزايا مهمة، وتساهم في تمويل الاقتصاد الحقيقي في فترات النمو الاقتصادي المرتفع للغاية، إذ غالبا ما يعجز النظام المصرفي التقليدي عن القيام بتوفير السيولة والمتطلبات المالية للأسواق بمفرده، ولكن بنوك الظل تصبح مصدرا للخطر الدائم عندما تتحول لبديل للنظام المصرفي أو منافسا له.
وأضافت أن علينا أن نقر بأن بنوك الظل حقيقية واقعية لا يمكن إلغاؤها من النظام المالي أو الاقتصادي، ولكن يجب أن يكون عليها رقابة دائمة ويتم تنظيم عملها بما يمنحها درجة أعلى من المرونة، والأكثر أهمية هو الشفافية في التعرف على مصادر التمويل لديها، وأنماط الإقراض، وكذلك ملاحظة أن الكثير من المؤسسات المالية غير المصرفية التي تقوم بعمليات إقراض تحصل على رؤوس أموال وإيداعات قصيرة الأجل (شهر أو ثلاثة أشهر أو عام) وتقوم باستثمارات طويلة الأمد، وهذا ما يمكن أن يكون الرصاصة القاتلة للنظام الاقتصادي ككل، إذا ما قرر المستثمرون في لحظة عصبية الانسحاب من الأسواق.
وتقوم السلطات المالية في عديد من الدول بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن بنوك الظل، والبحث عن مواطن الضعف، وتسعى هيئات الرقابة المصرفية لمعرفة مدى انكشاف البنوك التقليدية لبنوك الظل، وتنظيم العلاقة بين رأس المال المتاح والسيولة، إذ يسمح هذا الانكشاف لدى البنوك التقليدية من تعظيم تأثير بنوك الظل فيها وعلى القطاع المالي التقليدي والاقتصاد عامة.
وتشهد دوائر صنع القرار الاقتصادي في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، اهتماما ملحوظا بهذه الظاهرة، ويبدو هذا في تصريحات العديد من المسؤولين وفي مقدمتهم مارك كارني محافظ بنك إنجلترا، الذي أكد أن الأزمة الاقتصادية كشفت عن أن المشرعين غير قادرين على فهم الصلة الوثيقة بين النظام المصرفي وبنوك الظل، وأن الأزمة المالية تعمقت في جزء منها بسب عدم صلابة التشريعات الخاصة ببنوك الظل، فعندما اندلعت الأزمة انهار هذا النوع من المؤسسات المالية وضربت الأزمة عصب النظام الاقتصادي.
وبقدر ما تكشف تصريحات كارني عن سعي للحد من المخاطر الناجمة عن بنوك الظل، فإن الدكتور جربين كين أستاذ الاقتصاد الدولي بجامعة أكسفورد، يعتقد أن بنوك الظل ستشهد انتعاشا كبيرا في الفترة المقبلة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية من جراء القرارات المقيدة لعمل النظم المصرفية على حد قوله.
وأضاف لـ"الاقتصادية"، أن الاقتراح الذي تقدم به مجلس الاحتياط الفيدرالي برفع رؤوس أموال أكبر ثمانية مصارف أمريكية بدعوى جعل النظام المصرفي الأمريكي أكثر أمناً، ستمثل عائقا أمام مرونة الإقراض بالنسبة لتلك المصارف، وهو الأمر الذي سينتقل حتما للمصارف الأصغر، وبصفه عامة سيبحث المقترضين على مؤسسات أخرى للإقراض، وهذا سيعزز حتما من الأفق الاستثماري لبنوك الظل.
إلا أن انتعاش بنوك الظل لا يقف عند حدود الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور، فقد دفعت التطورات الجارية في أسواق الأوراق المالية في الاقتصادات الناشئة، إلى تعزيز هذه المؤسسات ودورها الاقتصادي.
وأشار تقرير للبنك الدولي للتسويات، إلى أنه قبل عام 2007 لم تساهم بنوك الظل بأي مبالغ مالية تذكر في الاقتصادات الناشئة، لكن الانتعاش الراهن في أسواق السندات في تلك الاقتصادات، ساعد بنوك الظل على تدوير ما قيمته نحو 270 مليار دولار من الائتمان المالي فيها.
وعلى الرغم من الإيجابية الاقتصادية من جراء عملية التدوير والإقراض المالي تلك، إلا أن بعض مختصي المصارف الغربيين يحذرون من مخاطر مستقبلية لها.
وايت دين الاستشاري في "وست بنك"، يعرب عن مخاوفه من أن قدرة بنوك الظل على تمويل جزء من احتياجات الأسواق المالية في الاقتصادات الناشئة، يضعف من قدرة السلطات المالية في تلك البلدان على رصد المخاطر المتوقعة. وأشار دين لـ"الاقتصادية"، إلى أن المعرفة الدقيقة لمساهمات بنوك الظل في الاقتصادات الناشئة عملية شديدة التعقيد، وأن تمر الائتمانيات المالية عبر قنوات غير مصرفية سيكون شديد الخطورة، وبين عام 2009 -2013 فإن شركات في الأسواق الناشئة أصدرت سندات دولية بنحو 554 مليار دولار، تقريبا نصفها أي ما يعادل 252 مليارا أصدر عبر أفرع لها في الخارج، وهو ما يجعل العمليات المالية لبنوك الظل أكثر تعقيدا ومن الصعب مراقبتها.
وبين الاقتصادات الناشئة تحتل بنوك الظل في الصين أهمية خاصة، ليس فقط من منطلق الحجم مقارنة بمثيلاتها في الاقتصادات الأخرى، ولكن أيضا من منطلق إمكانية تأثيرها في الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
وتعد بنوك الظل ثالث أكبر قطاع اقتصادي في الصين، وذلك وفقا لهيئة الاستقرار المالي، وتقدر المصادر الصيني القدرات المالية لهذا القطاع بنحو ثلاثة تريليونات دولار أمريكي، إلا أن مصادر دولية تعتقد أن الرقم الذي تعلنه بكين غير دقيق وذلك حتى لا تثير قلق المجتمع الدولي، وتذهب التقديرات الدولية إلى أن حجم قطاع بنوك الظل في الاقتصاد الصيني يبلغ نحو 4.5 تريليون دولار وأن الزيادة في حجم أصوله بلغت نحو 42 في المائة عام 2012 مقارنة بعام 2011، وفي عام 2013 قفزت بنحو 37 في المائة.
ولـ "الاقتصادية"، تقول الدكتورة فيفيان كادليب المختصة في الاقتصاد الصيني ، إن بنوك الظل تمثل ثلث القدرات المالية للمصارف الأمريكية وفي بريطانيا نحو 12 في المائة، ولكن في الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور فإن الإجراءات التنظيمية والرقابية تمكن السلطات المالية من الحد من الأضرار التي قد تنجم عن العمليات المالية لهذا القطاع.
وأضافت أن الأمر مختلف في الصين، فقدرات الرقابة المالية وتطبيق القانون محدودة مقارنة بالبلدان المتقدمة، ومن هنا تأتي خطورة أن تكون قدرات هذا القطاع مهولة في اقتصاد كالاقتصاد الصيني.
ويدافع البعض عن دور بنوك الظل في الاقتصادات الناشئة وفي الصين تحديدا، من منطلق أن الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة لا يمكن تحقيقه من خلال الاعتماد فقط على قدرة البنوك الرسمية في تمويل عملة النمو الاقتصادي، سواء نتيجة محدودية السيولة المالية لديها لإقراض المستثمرين أو للطبيعة البيروقراطية في عمليات الإقراض، وهو ما يعتبره البعض العامل الرئيسي في نمو هذه الظاهرة في عديد من الاقتصادات الناشئة خلال السنوات الأخيرة.