ذو القرنين وتطبيق منهج الرقابة على الجودة
ليس منا منْ لم يسمع بقصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، فهي من آيات القرآن الكريم. جاء ذكرها بتفصيل مبسَّط في سورة الكهف، وخروج يأجوج ومأجوج في سورة الأنبياء. وحدثنا القرآن عن علاقة ذي القرنين بيأجوج ومأجوج، ضمن قصة رحلته الاستكشافية في الشرق، ولكن الذي كان ولا يزال يلفت النظر حول هذا الموضوع هو انبهار الإنسان بالأوصاف التي كانوا يتداولونها عن طبيعة يأجوج ومأجوج، وهل كانوا بشرا مثلنا أم أنهم من جنس آخر وحجم مختلف. فتراوحت القصص والروايات من داخل الخيال وخارجه. فمنهم منْ تصور أن يأجوج ومأجوج ليسوا من بني البشر وأنهم ذوو أجسام صغيرة، ولكن أعدادهم هائلة، إلى درجة أنهم يمرون على البحيرات فيشربون ماءها في وقت قصير. وتضاربت الأنباء: هل حان الوقت لظهور تلك المخلوقات كما يذكر القرآن الذي لم يحدد لذلك زمنا معينا؟ وأين هم الآن؟ أسئلة واستفسارات وتخمينات لا حصر ولا نهاية لها. وأخيرا، بدأت تتضح الرؤية وينفتح العقل وتظهر الحقيقة. نعم، يأجوج ومأجوج هم بشر مثلنا، وتعيش أحفادهم وأجيالهم بين ظهرانينا، ونتعامل معهم، ولا فوارق هناك تفصل بيننا وبينهم.
فما عليك إلا أن تقرأ كتاب "فك أسرار ذي القرنين، إخناتون، ويأجوج ومأجوج"، الذي أبدع في تأليفه أخونا الفاضل حمدي بن حمزة الصريصري الجهني. فله منا جزيل الشكر والامتنان على مجهوده اللامحدود في توضيح الصورة التي كنا نتوق لمعرفة مغزاها وأسرارها. فهو كتاب جامع بين الدوافع الدينية والحقائق العلمية والوقائع التاريخية. ويتميز محتوى الكتاب بالدقة وحسن التنسيق والحرص على تفسير الظواهر التي صاحبت حدوث تلك القصة المثيرة. ومن حرص وأمانة المؤلف على معرفة جميع الحقائق والظروف التي كانت قد أحاطت برحلة ذي القرنين، قام بنفسه، حفظه الله، وتتبع مسار ذي القرنين من بداية رحلته الطويلة والشاقة من موطن بدايتها حتى حط رحاله في أو قريب من موطن يأجوج ومأجوج، متجشما كمًّا هائلا من صعوبة السفر، وكثير من المشاق والعقبات. وقد حاول مؤلف الكتاب أن يقف على المعالم التي ظن أن ذا القرنين قد مر أو أقام بها ما شاء الله أن يمكث فيها من الوقت. وقد ذكر منها اتجاهه شرقا ومروره بجزر الملديف في المحيط الهندي، مغرب الشمس، ثم اتجه شرقا موازيا لخط الاستواء حتى وصل إلى جزيرة ما يسمى جمهورية كيريباتي، مطلع الشمس. ومنها عاد ذو القرنين غربا إلى بلاد الصين. فرحب به أهلها، وطلبوا منه مساعدتهم في بناء سد يحميهم من هجمات جيرانهم العدوانية، يأجوج ومأجوج. فاستجاب ذو القرنين، كما ذكر القرآن الكريم، لطلبهم وأنشأ الردم الذي كان من المفروض أن يحميهم من هجمات أقوام يأجوج ومأجوج، حتى يأتي وعد الله. وفي الصين الحديثة، وجد المؤلف بعض الشواهد من المكان ومن تأريخ اللغة الصينية، أن كلمة يأجوج تعني في اللغة الصينية، شعوب قارة آسيا، وكلمة مأجوج تعني شعوب قارة الخيل. وهي أمم مفسدة، كما وصفهم القرآن الكريم. واستغرقت رحلة ذي القرنين من بدايتها إلى نهايتها سنوات، إذ ربما أنه لم يكن في عجلة من أمره.
وقد استنتج المؤلف، بعد جهد كبير من البحث ومن الدراسة، أن ذا القرنين كان "إخناتون" ابن فرعون مصر أمنحوتب الثالث الذي غرق في البحر في عهد موسى عليه السلام، وليس كما كان يظن البعض، أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني، أو قورش. ورجَّح المؤلف أن يكون إخناتون هو الرجل من آل فرعون الذي ذكر القرآن أنه كان يكتم إيمانه عندما كان سيدنا موسى- عليه السلام- يدعو فرعون إلى عبادة الله وحده. وأن إخناتون هو ابن امرأة فرعون التي ضرب الله بها مثلا في الإيمان، في سورة التحريم. ورث إخناتون الحكم بعد غرق أبيه وحكم مصر سنوات، مؤمنا بعبادة رب الشمس وليس عبادة الشمس، كما كان أسلافه وكثير من قومه الذين ظلوا على عقيدتهم الشركية. وبعد فترة من زمن حكمه، قرر إخناتون ترك مصر وبدأ رحلته الشهيرة، مع بعض أفراد أسرته وحاشيته، بأمر وتوجيه من خالق الشمس. ومن اللافت للنظر، عدم وجود أي أثر لإخناتون في مقابر وتراث فراعنة مصر، كما جرت العادة من الحفاظ والعناية بأجسام أموات الفراعنة، وهذا يدل على أنه فعلا كان قد غادر مصر قبل وفاته. وذكر المؤلف أن إخناتون ورفاقه قد استقروا وعاشوا في الصين، وأنهم تولوا الحكم هناك لمئات السنين.
وقد اختلف كثيرون حول صِفة وطبيعة يأجوج ومأجوج، ومنهم منْ أنكر وجودهم، وهو أمر لا نقبله نحن المسلمون. ولعل أفضل ما ذُكِر عن قصة يأجوج ومأجوج في عصرنا الحاضر، بعد هذا الكتاب الذي نحن بصدده، الرسالة القيمة التي كتبها فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله، في أواخر الخمسينيات الهجرية. وهو عالم جليل، كان قد سبق عصره في علمه وتنوره وسعة اطلاعه، في وقت كان العلماء يتحرجون من الخوض في مثل هذه المواضيع الحساسة؛ نظرا لمحدودية اطلاعهم وثقافتهم العلمية. فدحض شيخنا الفاضل في تلك الرسالة كثيرا من المزاعم الخاطئة حول يأجوج ومأجوج. ثم جاء هذا الكتاب، الذي أوضح بطرق علمية وتجريبية وتأريخية، ليكون فصل الخطاب في إثبات وجودهم كما ذكر القرآن، وتحديد معالم وشخصية ذي القرنين الذي بعثه الله ليكون له الدور الرئيس في حماية شعب مسالم كان مغلوبا على أمره ومهدَّدا من عدوانية جيرانه. ونظرا لأهمية ما تضمنه الكتاب، فقد قرر المؤلف ترجمته إلى اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والصينية والإندونيسية والأردية. وتشير دلالات كثيرة، كما ذكر المؤلف، إلى أن ذا القرنين كان ذا رسالة عظيمة، أقرب ما تكون للرسالات السماوية. فقد كانت مؤسسة على عبادة الله وحده، ونشر العدل، ومقاومة الظلم والفساد والمفسدين في الأرض. ومما يجدر ذكره أن ذا القرنين كان أول من اخترع تقنية صناعة الحديد الصلب، وأول من طبق منهج الرقابة على الجودة، وذلك من خلال تنفيذه مشروع الردم. ومن مخرجات الكتاب ما ينفي الاعتقاد السائد بأن الصينيين هم يأجوج ومأجوج، بل هم شعوب محيطة بالصين شمالا وشرقا وغربا.