مبالغ الديات وأموال الصلح تقفز إلى مستوى المتاجرة
قفزت قضية مبالغ الديات للتنازل عن القصاص المقابل المادي للصلح، إلى مستوى لم يعد مقبولا لدى المجتمع السعودي، بعد وصول المبالغ إلى أرقام فلكية.
اعتبر عدد من العلماء والمشايخ والقانونيين بمحافظة جدة أن المبالغة في الديات للتنازل عن القصاص وقيمة الصلح في قضايا القتل ظاهرة لا تمت بأية صلة للدين الإسلامي ولا إلى المجتمع السعودي المتمسك بالشرع الحنيف الذي تحض تعاليمه على التخفيف والسماحة, منوهين بضرورة تكثيف الوعي الشرعي بين الناس والتحذير من تلك الظاهرة السيئة وحثهم على أهمية إحياء فضيلة العفو ابتغاء للأجر والمثوبة من الله تعالى.
وقال الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز المصلح الأمين العام للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية برابطة العالم الإسلامي: "إن الشريعة الإسلامية الغراء جاءت لحفظ مصالح العباد في الحال والمآل وانبنت أحكامها على العلل الجالبة للمصالح وجوبا وعدما, وكان من أسمى أهدافها وأنبل غاياتها جلب المصالح ودرء المفاسد في كل الأمور والأحوال والظروف واتفقت العقول على صيانتها ورعاية مصالحها ومن أهمها حفظ النفس البشرية وحمايتها والتأكيد على كرامتها وحقوقها في مختلف مناحي الحياة وشؤونها".
وأضاف: "إن السعودية ارتكزت في كل تشريعاتها وأنظمتها على الشريعة الإسلامية السامية وعملت بمختلف مؤسساتها القضائية وأجهزتها التنفيذية على إقامة شرع الله وتحكيم أوامره وتنفيذ شرعه, مشيرا إلى أن لعتق الرقبة لوجه الله تعالى فضل كبير لما له من زرع الألفة وإيجاد التراحم بين صفوف المجتمع ونبذ ظاهرة المطالبة بمبالغ باهظة لقاء التنازل عن القصاص.
ودعا الدكتور المصلح رجال الدعوة والمشايخ وأصحاب العلم أن يوضحوا هذه القضية وسلبياتها وآثارها والتحفيز على ترك المبالغة في احتساب الديات نظير التنازل عن دم المقتول والأموال الطائلة التي يتكبدها الجاني مقابل هذا التنازل لتسود المحبة والوئام وتتلاشى رواسب الحقد والضغينة التي تخلفها الجناية في النفوس.
من جانبه قال الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحسيني رئيس المحكمة العامة بمحافظة جدة: "ما نراه اليوم من تهالك على واسطات الصلح على إسقاط القصاص ويسمونها ديات وإعتاق رقاب وهي ليست ديات؛ إذ الديات لها مدلولها الشرعي ومقدارها المحدد، وإنما هؤلاء يعزفون على وتر الابتزاز برفع سقف مطالبهم مقابل إسقاط الدم ونسمع مبالغات كبيرة ومزعجة ومشوهة لمجتمعنا".
#2#
وأضاف: "إن القيادة الحكيمة أكدت على الحد من هذه المبالغات وجعلت ضوابط لمثل هذه المصالحات، وللأسف أن هناك مبالغ سعاية تقدم لهؤلاء المتوسطين وعمولات تدفع مقابل إقناعهم ذوي الدم أو مقابل رفع سقف المطالبة لهم، وهناك ممن سار في هذا الاتجاه وهو المصالحة المالية بأضعاف أضعاف الدية المقررة شرعا وهذا ما كرس التوسع الحاصل في هذه المسائل وزاد من مبالغها، بل إن في بعض القضايا يقوم ذوو الدم بالابتزاز وذلك بضرب ملايين الريالات لذوي القاتل وابتزازهم بالتنفيذ، حيث لا يبدأ ابتزازهم إلا بعد اكتساب حكم القصاص القطعية ومن ثم تبدأ المساومة وبعدها يبدأ نصب الخيام وتجميع الوجهاء والشعراء والقنوات وهذا شيء محزن خصوصا من ليس له وجاهة ولا مال. كما أكد المهندس عبدالعزيز بن عبدالله حنفي رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة أن الله سبحانه وتعالى رغب إلى عباده العفو والصفح بقوله تعالى: "ومن عفا وأصلح فأجره على الله" وقوله تعالى: "والصلح خير" وقوله تعالى: "فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين".
وبين أن الله شرع القصاص في القتل العمد لردع من تسول له نفسه إزهاق نفس بغير حق لقوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون"، ولقد ندب الشارع إلى حث الأولياء على الصلح والتنازل لوجه الله أو أخذ دية القتل العمد, ودية القتل العمد كما هو مقرر هي الدية المغلظة لكنها لا تزيد كثيرا عن دية قتل الخطأ.
وشدد على أن ظاهرة طلب الديات الكبيرة أصبحت مقلقة لأولياء القاتل وجماعته وإن كان القاتل أو أولياؤه عندما يوافق ولي الدم على التنازل لا ينظرون إلى مقدار ما يدفع فهم يريدون إنقاذ الجاني من القصاص لكن في الوقت نفسه الغالب أن القاتل لا يدفع شيئا وأن الذي يتحمل ذلك أناس لا ذنب لهم فيما أقدم عليه الجاني, مشيرا إلى أهمية توعية المجتمع بهذا الموضوع وتوعية الناس بما ورد في الشرع الحكيم من حث على الخير وتغليب جانب ما عند الله خير مما يأخذه الولي أو من له صلة بالقتيل, داعيا إلى أهمية نشر ثقافة العفو والتسامح بين الناس من خلال خطب الجمعة والدعاة والمرشدين ووسائل الإعلام المختلفة.
ويرى علاء بن محمد الغامدي المحامي والمستشار القانوني أن المبالغة في طلب تعويض الديات يعد بمثابة إلغاء لمقاصد هذه العقوبة وتحويلها لتجارة مقيتة تدخل في باب النهي, مبينا أن ما لوحظ في الآونة الأخيرة من سوء تعاطي في قضايا الديات يعد مؤشرا سلبيا يخالف مقاصد الشريعة ويجافي مبدأ العفو والتسامح الذي من أجله شرعت الدية.
وأضاف، أن المبالغة في مطالبة الدية أصبحت ظاهرة منتشرة وتكون هناك مشقة على البعض من جمع تلك الأموال استنادا للقاعدة الفقهية: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" ، وللأسف أصبحت المبالغ الطائلة التي تدفع لأولياء الدم تجارة يتكسب منها أطراف عدة من جراء السعي والتوسط والتدخل لقبول الدية.
وقال: إن المبالغة في التجمعات وإقامة المخيمات لجلب هذه الأموال مظهر سلبي بات يشوه صورة مجتمعنا، ومن المهم أن يتم نشر ثقافة العفو والتسامح بين الناس عبر جميع المنابر المختلفة بأساليب حديثة تظهر قيم التسامح في ديننا الحنيف وشيم العرب في الصفح بعد أن أضحى موضوع المبالغة في الديات من الظواهر السلبية التي برزت في الآونة الأخيرة بصورة لا تتسق مع القيم الإسلامية التي تحض على قيم الصفح والعفو عند المقدرة والتسامح وإصلاح ذات البين دون عوض؛ لأن العفو من أفضل القرب إلى الله خصوصا إذا كان الجاني قد تاب وأصلح الله أمره واستقام.