هل تترك اليونان اليورو؟
منذ فوز حزب سيريزا اليساري في الانتخابات اليونانية والمسألة اليونانية تحتل اهتمام العالم أجمع، حيث يثور الجدل حول مستقبل الاتحاد النقدي الأوروبي، وما إذا كان الاتحاد الأوروبي سوف يستمر في دعم اليونان على النحو الذي يمكن الحكومة اليونانية من تحقيق التعهدات التي قطعتها على نفسها بوقف الإجراءات التقشفية وبإعادة التفاوض حول شروط حزمة الإنقاذ التي أقرت في 2012. بينما يرى البعض أن خروج اليونان من اليورو مسألة وقت، مثل رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق ألن جرينسبان، بل بلغ الأمر ببعض الدول، مثل المملكة المتحدة، إلى البدء في وضع سيناريوهات لمواجهة تداعيات خروج اليونان من منطقة اليورو. في الوقت الذي يتفاءل البعض، وأنا منهم، بإمكانية التوصل إلى حل وسط يمكن لسيريزا أن يسوقه للشعب اليوناني.
لقد انتشرت حالة عدم التأكد في الأسواق مخافة أن يؤدي عدم التوصل إلى حل مع حزب سيريزا إلى انطلاق أزمة ديون اليونان مهددة النظام المالي الأوروبي، فمنذ بداية الأزمة المالية العالمية وحتى اليوم، ظلت اليونان قنبلة أوروبا الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة. حيث ظل التعامل مع الأزمة اليونانية يتم من خلال نظام المسكنات، بدلا من أن يطرح حل جذري للمشكلة بخفض ديون اليونان إلى مستويات مستدامة تستطيع اليونان بمعدلات نموها المتواضعة أن تتعايش معها.
في رأيي أن الاتحاد الأوروبي بالغ في تقدير الأعباء التي يمكن أن تنطوي على خروج اليونان من منطقة اليورو، وأن إصرار الاتحاد على إنقاذ اقتصاد غير قابل للإنقاذ في ظل عضويته لاتحاد نقدي ترتب عليه تكلفة فادحة للطرفين، الاتحاد الأوروبي واليونان، وقد دفع الشعب اليوناني تكلفة باهظة نظير الإصرار على استمرار بلاده في منطقة اليورو.
فالدين اليوناني يصل إلى 315 مليار يورو، أي نحو 170 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبينما يرى حزب سيريزا أن هذا المستوى من الدين غير مستدام، وأن السبيل الوحيد لتخفيف حدة الدين هو خفض الديون على اليونان، فإن ألمانيا ترى أن السبيل الوحيد لخفض الدين على اليونان هو النمو.
في المقابل فإن سيريزا يلعب بورقة الخروج من اليورو، في طلب إلغاء قدر كبير من ديون اليونان ووقف سياسات التقشف، وذلك لإحراز أكبر قدر من المكاسب أمام ناخبيه الذين وعدهم بأن سياسات التقشف، أصبحت جزءا من ماضي اليونان، حسب تصريحات قادة الحزب، غير أنه من الواضح من ردة الفعل داخل المنطقة أن هذه التصريحات ربما تعد غير مسؤولة، وتمت دون إدراك التبعات الحقيقية لسلوك مثل هذا المنحى في معالجة الأزمة اليونانية.
فمن الواضح أن منطقة اليورو أصبحت اليوم أكثر استعدادا لخروج اليونان وتستطيع إلى حد كبير التعامل مع تبعاته، وأن اليونان أصبحت في موقف أضعف، والسؤال الحرج هو: هل تستطيع اليونان تحمل تبعات خروجها من اليورو؟ ما أؤمن به إيمانا جازما أنها لا تستطيع، وربما لو تجرأت على أن تفعل ذلك، فإن عليها أن تتحمل تبعات إعلان إفلاسها، التي هي بلا شك أخطر كثيرا من تبعات الاستمرار في تبني سياسات التقشف الحالية.
صحيح أن بعض طلبات اليونان قد تبدو مستحقة، لكنها في مجملها غير منطقية، إذ كيف يمكن طلب إلغاء الديون وفي الوقت ذاته إلغاء سياسات التقشف التي يفترض أنها تضمن استدامة الوضع المالي اليوناني، وأحد التزامات اليونان الأساسية للسيطرة على نمو العجز، لذلك ليس غريبا أن يواجه التشدد اليوناني بتشدد أكبر من جانب الأوروبيين، الأمر الذي سيضع ضغوطا أكبر على سيريزا.
لكن هل بالفعل تجرؤ اليونان على ترك اليورو؟ أو ربما الاتحاد الأوروبي؟ أغلب المراقبين يرفضون الفكرة، وإن كان البعض يرى أنها مجرد مسألة وقت كما ذكرنا، لكنني أعتقد أن اليونان لن تترك اليورو لأن المخاطر المترتبة على ذلك مرتفعة للغاية، وأعتقد أن ما نراه اليوم هو لعبة لي ذراع بين الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا من جانب، واليونان من جانب آخر، حيث تريد اليونان إعادة التفاوض حول شروط برنامج الإنقاذ بينما تصر ألمانيا على أن هذه الشروط أساسية لإصلاح الوضع الاقتصادي في اليونان.
فالاقتصاد اليوناني يمثل 2 في المائة فقط من الاقتصاد الأوروبي، فضلا عن أن عدد سكان اليونان لا يتجاوز 11 مليون نسمة، من هذا المنطق قد تبدو الهالة الموضوعة حول أهمية الاقتصاد اليوناني لمنطقة اليورو مغالى فيها، والواقع أنه حاليا تتكون فكرة أن خروج اليونان ربما يريح منطقة اليورو أو الاتحاد الأوروبي من الصداع اليوناني. خصوصا أن المنطقة اليوم أكثر استعدادا لتحمل آثار الخروج، مقارنة بالوضع في 2012، حينما تزايدت التكهنات بخروج اليونان.
من ناحية أخرى فإن الاقتصاد اليوناني يواجه أزمة سيولة حقيقية في الوقت الحالي، وأن احتمال إفلاس اليونان أصبح مرتفعا للغاية إذا ما قررت التخلي عن اليورو، ذلك أنه من الواضح في الوقت الحالي أن خزانة الدولة أصبحت خالية من السيولة، وأن اليونان في أمس الحاجة اليوم إلى المزيد من القروض قصيرة الأمد، ولا شك أن حصوله عليها سوف يصبح مرهونا باستمرار العمل بالسياسات التي تفرضها الاتفاقيات الموقعة مع الترويكا. وقد أعلن رئيس الوزراء اليوناني أليكس ستسيبراس مرارا أنه ملتزم بوعوده التي قطعها حزبه على نفسه أمام الناخبين، واليونان تريد التفاوض على شروط الإنقاذ للتخلص من إجراءات التقشف، وفي الوقت ذاته تريد مساندة دولية لإنقاذ الاقتصاد اليوناني من شبح الإفلاس من خلال قرض قصير الأجل حتى حزيران (يونيو) القادم.
هذه الأوضاع تنعكس على الثقة بالنظام المصرفي اليوناني الذي يواجه في الوقت الحالي مخاطر هروب رؤوس الأموال مع تزايد عمليات سحب المودعات خشية ترك اليونان لليورو، والعودة إلى العملة القديمة "الدراخمة اليونانية"، ووفقا لبعض التقديرات فقد فقدت المصارف اليونانية بالفعل ما بين 8 و 10 مليارات يورو في كانون الثاني (يناير) الماضي فقط، وذلك في صورة سحب للمودعات، خشية ترك اليونان لليورو. كذلك أصبحت المصارف اليونانية في مأزق بعد قرار البنك المركزي الأوروبي عدم قبول السندات اليونانية كرهن في مقابل أي تسهيلات ائتمانية يقدمها لتلك المصارف، وهو ما يعني أن البنك المركزي الأوروبي تخلص من التزامه بأن يلعب دور المقرض الأخير لتلك المصارف.
أكثر من ذلك فإن هناك خطرا إضافيا يلوح في الأفق في الوقت الحالي إذا ما أذعن الاتحاد الأوروبي لمطالب سيريزا، وهو انتشار مد مقاومة سياسات التقشف إلى باقي الدول المدينة في أوروبا، على سبيل المثال فقد بدأ حزب بوديموس الإسباني يستهدف في الوقت الحالي تكرار التجربة اليونانية، وقد تمكن الحزب من جمع بعض الجموع الغاضبة من السياسات النقدية في الميادين الإسبانية. وتشير التقارير إلى أن هناك نوعا من التنسيق بين الحزبين الإسباني واليوناني حول إنهاء سياسات التقشف التي تتبعها الدول المدينة في أوروبا، وتنسيق مطالبهما حول موقف موحد من مفاوضات جديدة حول الديون السيادية لكل منهما، وهي تطورات تستلزم المواجهة.
ربما يجرؤ اليساريون في اليونان على ترك اليورو، ولكنها بالتأكيد ستكون خطوة غير محسوبة العواقب بالنسبة لليونان. ففي اللحظة التي ستخرج فيها اليونان من المنطقة ستصعد معدلات الفائدة على سنداتها إلى السماء، وسيتم تصنيف تلك السندات إلى مرتبة السندات غير المرغوب فيها، وربما تبدأ اليونان رحلتها نحو الإفلاس السريع، مع بدء عمليات هروب سريعة لرؤوس الأموال من المصارف اليونانية خوفا من العودة مرة أخرى للدراخمة.
في رأيي أن أهم ما يجب أن يهدف إليه جميع الأطراف اليوم هو التوصل إلى صيغة توافقية يمكن تسويقها لناخبي حزب سيريزا على النحو الذي يحفظ ماء وجهه أمام من أعطوه أصواتهم، وبالشكل الذي يتماشى، ولو ظاهريا، مع الوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب اليوناني.