الأوضاع الاقتصادية تفقد عملات الأسواق الناشئة بريقها
فجأة ودون سابق إنذار تدهورت قيمة عملات العديد من الاقتصادات الناشئة، فاليوان الصيني تراجع إلى أدنى مستوى له خلال عامين مقابل الدولار الأمريكي، والروبية الإندونيسية انخفضت إلى أقل سعر لها في الأسواق خلال 16 عاماً، والليرة التركية هي الأخرى تشهد هبوطاً حاداً في قيمتها، أما الريال البرازيلي فقد بلغ أدنى مستوياته خلال عقد.
لماذا حدث هذا؟ وهل سيدوم الانخفاض؟ وما هي الإجراءات الواجب اتخاذها سريعا من قبل حكومات تلك البلدان كي تستعيد العملة الوطنية عافيتها؟ وهل يوجد قاسم مشترك بينهم يبرر فقدان عملات الاقتصادات الناشئة بريقها؟
الدكتور وليم رود أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كمبريدج يعتبر أن كل دولة من تلك الدول لديها مشكلات خاصة أدت إلى خفض قيمة عملتها، إلا أن ذلك لا ينفي وجود مجموعة من القواسم المشتركة أوصلت الوضع إلى ما آلت إليه.
وقال رود لـ "الاقتصادية"، إن هناك حالة من العصبية تنتاب المستثمرين جراء الوضع الاقتصادي المتراجع للاقتصادات الناشئة، فالعديد من تلك البلدان لا يزال اقتصادها يعتمد على تصدير السلع الأساسية والمواد الخام، وقد تراجعت أسعارها في الآونة الأخيرة، والنتيجة انخفاض معدلات النمو الراهن والمتوقع.
وأشار رود إلى وجود مخاوف من تغير أسعار الفائدة في الولايات المتحدة هذا العام، وأياً كانت التطمينات الصادرة من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فإن الجميع يدرك أنه بمجرد تغير أسعار الفائدة ستدير العديد من الاستثمارات الأجنبية الدفة وتغادر أراضي الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة.
ومع هذا فإن البعض ينظر إلى انخفاض قيمة عملات الاقتصادات الناشئة بوصفه فرصة جيدة لهذه البلدان لتعزيز صادراتها، ومن ثم استعادة بعض عافيتها الاقتصادية المفقودة، فيما يقر آخرون بأنه لن يكون أمام الأسواق الناشئة في الفترة المقبلة غير خفض أسعار الفائدة.
وكان البنك المركزي الصيني في مقدمة المصارف التي اتخذت قرارا بهذا الشأن، فقد أعلن أول أمس، عن خفض معدل الفائدة بنحو 25 نقطة أساسية، لكن بعض الاقتصاديين يشككون في جدوى تلك الوسائل ويعتبرونها أقرب إلى المهدئات منها إلى حلول اقتصادية جذرية.
ويشير خبراء إلى أن كثافة التدخل السياسي في أداء المصارف المركزية يضع عليها ضغوطا غير مبررة يمكن أن يكون لها تداعيات اقتصادية سلبية على الأمد الطويل حتى وإن نجحت في إحداث انتعاش اقتصادي مفتعل حاليا على حد وصفهم.
ويقول لـ "الاقتصادية"، ماكس راسل الباحث في المعهد الدولي للاقتصاد، إن التدخلات السياسية لها تأثير سلبي على قيمة العملة الوطنية، ويعتبر أن الاقتصاد التركي نموذجا سلبيا في هذا الشأن ويقول "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صعد من هجومه على التوجهات الراهنة للبنك المركزي التركي، وهي توجهات محافظة في مجال الإقراض بهدف الحد من التضخم، ولكن لأسباب سياسية تتعلق بحرص الرئيس على مزيد من الشعبية، فإنه دعا البنك المركزي لخفض تكاليف الإقراض بسرعة لدعم النمو، والنتيجة أن الليرة التركية انخفضت لتصل إلى 2.5275 مقابل الدولار.
ويترافق الاضطراب في أوضاع عملات العديد من الأسواق الناشئة مع تقرير أعده قسم مراقبة الإسكان عالميا التابع لصندوق النقد الدولي، حول وضع أسعار العقارات في تلك البلدان ومخاطر تراجع قيمة عملتها على سوق العقارات فيها، وما قد ينجم عن ذلك من هزة اقتصادية وصفها التقرير بـ" الزلزال". وأعرب معدو التقرير عن قلقهم من أن يؤدي تراجع قيم العملات المحلية لتلك البلدان إلى انفجار الفقاعة العقارية فيها، ما سيؤدي حتما إلى عواقب اقتصادية عميقة تتجاوز حدودها الوطنية.
وجاء في التقرير أن أسعار المنازل في ثلاثة من الاقتصادات الناشئة الكبرى وهي الصين والبرازيل وتركيا لا تزال أعلى من معدلات التضخم، وذلك رغم تراجع معدل نمو الدخول في تلك البلدان.
وإضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة فإن العجز في الحساب الجاري في البلدان الثلاثة يعتمد بشكل كبير في سداده على الاقتراض الأجنبي، سواء المباشر أو غير المباشر كالاستثمارات الدولية، بطريقة لا تتناسب مع القدرات الاقتصادية الحقيقية لها.
ويحذر التقرير من أن انخفاض قيمة العملات الوطنية جراء تراجع النمو قد ينعكس سلبا على السوق العقارية في الأسواق الناشئة، ويصف التقرير هذا القطاع بأنه قطاع أساسي في الاقتصاد الوطني ومحرك للعديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى، ما قد يؤدي إلى دفع اقتصادات الأسواق الناشئة إلى أزمة اقتصادية حادة قريبا.
ويعتبر المتعاملون في مجال النقد الأجنبي سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات هم الأكثر قلقا جراء التغيرات الراهنة في قيمة عملات الأسواق الناشئة، فمنذ بداية العام وحتى الآن خسرت سلة مؤلفة من 20 عملة من عملات الأسواق الناشئة نحو 3.3 في المائة من قيمتها.
ويعتقد دي.إم. سويل الاستشاري في بنك "مورجان ستانلي"، أن الأسواق الناشئة ستشهد عملاتها أوضاعا عسيرة هذا العام، جراء عدد من المتغيرات الدولية. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أن العديد من تلك الاقتصادات تم تخفيض تصنيفها الائتماني عالميا، والمتوقع أن يتم تخفيض التصنيف الائتماني لمجموعة أخرى منها إذا استمر وضعها الاقتصادي الراهن.
وأشار سويل إلى أن خفض التصنيف الائتماني سيؤدي إلى رفع تكلفة الاقتراض الدولي كما سيمثل عامل قلق لرؤوس الأموال الأجنبية، وربما تكون هناك حاجة ماسة من قبل تلك البلدان إلى إحداث تغييرات جذرية في سياستها المالية أكثر من حاجتها إلى تغييرات طفيفة هنا وهناك في أسعار الفائدة.
وتقابل المطالبات باتخاذ حكومات الأسواق الناشئة قرارات عاجلة لتغيير سياستها المالية الراهنة للحيلولة دون المزيد من انخفاض أسعار العملية الوطنية باعتراض من قبل بعض الاقتصاديين من ذوي التوجهات الليبرالية.
الدكتورة برنيت ماكس المحاضرة في جامعة ليدز والمتخصصة في الاقتصاد الكلي، ترفض الأفكار الداعية لإحداث تغييرات في السياسة المالية للأسواق الناشئة، وتعتبر أن ما يحدث لعملاتها المحلية عملية تصحيح تلقائي من الأسواق، وأن أي تدخل حكومي سيؤدي إلى أضرار اقتصادية وخيمة في الأجل الطويل.
وأوضحت ماكس لـ "الاقتصادية" أن العامل الأساسي وراء انخفاض قيمة عملات الأسواق الناشئة هو التغير بين العرض والطلب سواء بالنسبة لتلك العملات أو في معادلة الاقتصاد الكلي في تلك البلدان، معتبرة أن التدخل الحكومي عبر السياسات المالية سيحدث تحسنا زائفا في قيمة تلك العملات وسيقيمها بأسعار غير حقيقية، وبرأيها فإنه حتما إلى انتعاش في الأجل القصير، لكنه انتعاش لا يعكس القوة الحقيقية للاقتصاد الوطني أو العملة المحلية، وللحفاظ عليه سيكون على الحكومة مواصلة التدخل في الشأن الاقتصادي عبر قرارات إدارية مع تحديد آليات عمل السوق الداخلية.