أدب الرسائل .. من دواوين الساسة إلى إخوانيات الأدباء

أدب الرسائل .. من دواوين الساسة إلى إخوانيات الأدباء
أدب الرسائل .. من دواوين الساسة إلى إخوانيات الأدباء
أدب الرسائل .. من دواوين الساسة إلى إخوانيات الأدباء

أدب المراسلات أو الرسائل فن من الفنون النثرية الذي عرف قديما، فكثيرا ما كانت تشكل دواوين أي وزارات خاصة بهذا الفن، ويجلب لها أبرع الكتاب، وأجودهم تعبيرا. فديوان الرسائل قديما كان بمثابة وزارة الإعلام والاتصال حاليا، ورئيس الديوان عادة هو الناطق الرسمي باسم الحكومة.

وقد تطور فن الرسائل ليخرج عن النطاق السياسي ليدخل في الإطار الإخواني ما يسمى بالإخوانيات.. ليتبادل الكتاب والأدباء رسائل عدت دررا في قلادة الأدب العربي، وإن كان الزمن قد باعد بيننا وبين ذاك العهد، وفن المراسلات لم يأخذ في العصر الحديث المكانة التي أخذتها الفنون الأخرى، إلا أن كتب التاريخ احتفظت لنا بالكثير من المراسلات بين الأدباء، وكان أشهرها على الإطلاق في العصر الحديث مراسلات الأديبة مي زيادة وجبران خليل جبران من جهة، وبينها وبين العقاد، والرافعي من جهة أخرى.

وكذلك احتفظ لنا تاريخ الأدب برسائل متبادلة بين شاعرين فلسطينيين من أبرز شعراء القضية الفلسطينية وهما الشاعر الراحل محمود درويش، والشاعر سميح القاسم. وقد جمعت هاته الرسائل في كتاب يحمل عنوان الرسائل- محمود درويش وسميح القاسم.. من منشورات دار العودة – بيروت. وقدم لهذه الرسائل إميل حبيبي الروائي الفلسطيني المعروف، صاحب أشهر رواية وهي المتشائل.

يضم الكتاب بين دفتيه ثلاث حزم من الرسائل، والقصائد المتبادلة بين الشاعرين منذ فتوتهما الشعرية، والزمنية، فكان التصدير بقصيدة تغريبة مهداة إلى محمود درويش كتبها الشاعر سميح القاسم، وهي من ضمن الرسائل المتبادلة والدرجة طي الكتاب والتي يبدؤها بقوله."لبيروت وجهان وجه لحيفا ونحن صديقان سجنا ومنفى". ثم تليها قصيدة "أسميك نرجسة حول قلبي" كتبها الشاعر محمود درويش وبعثها إلى صديقه الشاعر سميح القاسم، ويبدؤها بقوله:

"دوائر حول الدوائر، لوكان قلبي معك
قطعت مزيدا من البحر، ماذا أصاب الفراش
وما صنع النبع بالفتيات الصغيرات .. ماذا دهانا.
لندخل هذا العناق السراب .. العناق السراب
السراب ونحن على مشهد لا يكرر إلا حضور الغياب".

وفيها إقرار مبدئي من قبل درويش في الرسالة الأولى بالتقصير وشكوى من الظروف الحياتية، فيقول: عزيزي سميح "ما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل؟ لقد اتفقنا على هذه الفكرة المغرية منذ عامين في مدينة استكهولم الباردة، وها أنا ذا أعترف بتقصيري، لأني محروم من متعة التخطيط لسبعة أيام قادمة .. فأنا مخطوف دائما إلى لا مكان آخر.." وفيها إقرار خفي أيضا أن هذه الرسائل لا تقول كل شيء، ولا تكشف إلا ما يريدان كشفه للآخر.. إذ يقول محمود درويش: لن نخدع أحدا، وسنقلب التقاليد، فمن عادة الناشرين، أو الورثة أن يجمعوا الرسائل المكتوبة في كتاب، ولكننا هنا نصمم الكتاب، ونضع له الرسائل. لعبتنا مكشوفة. سنعلق سيرتنا على السطوح، أو نواري الخجل من كتابة المذكرات بكتابتها في رسائل.. انتبه جيدا لن تستطيع قول ما لا يقال، فنحن مطالبان بالعبوس. بالصدق والإخفاء، ومراقبتهما في آن .. مطالبان بألا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة .. ومطالبان بإجراء تعديل ما على طبيعة أدب الرسائل، أبرزه استبعاد وجوه الشهود، وجمالية الضعف الإنساني".
#2#
ولعلنا نلحظ تلك الرقابة الذاتية التي سيمارسها الشاعران عادة خاصة وأنهما يبرمجان لنشر رسائلهما. والرسائل بين الأدباء عادة ما تنشر بعد وفاتهم، وكثيرا ما يثير نشر هذه الرسائل ضجة كبيرة، كما حدث مع غادة السمان حينما نشرت الرسائل التي تبادلتها مع غسان كنفاني المغتال من قبل الموساد. إذن القارئ سيكون على ضفاف الكتابة، وسينفتح على رغبة استكشاف الداخل، لكن هذه الرغبة ستصطدم حتما بتعبة الهدم والبناء التي يقوم بها الشاعران مع سبق الإصرار والتعمد. وحس الرقابة الحاد عند محمود درويش لا يجد صدى كبيرا لدى سميح القاسم خاصة في عبارته "نحن مطالبان بألا نشوه صورة نمطية أعدتها المخيلة العامة.." فيرد عليه بالقول .." هكذا تقول في رسالتك، هديتك الرائعة لي في يوم ميلادي المروع، لا بأس عليك يا أخي الحبيب.. فهناك من هم أقدر منا على تشويه صورتنا النمطية هذه. أما نحن فما علينا إلا أن نرمم المخيلة العامة".

وأما الحزمة الثالثة فتتكون من عشر رسائل. ويمكننا في ضوء ذلك تقسيم الرسائل إلى عدة محاور.

-رسائل المنفى.

-رسائل السخط والعار.

-رسائل الحب والأمل.

فمن رسائل المنفى نجد الرسالة الأولى المرسلة إلى سميح القاسم والمكتوبة في باريس والتي يشكو فيها محمود درويش غربته ومنفاه فيقول .. "قريبا ست عشرة سنة .. ست عشرة سنة كافية لأن تتحول الحشرات الصغيرة إلى جراح أيوب إلى طائرات نفاثة. ست عشرة سنة تكفي لأصرخ .. بدي أعود. بدي أعود.. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النصر أو القبر.. ولكن أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أين قبري؟". فكأن الشاعر وهو يشكو المنفى يجتر منفاه الذي يعيشه داخل ذاته.. ونفس الوجع والشكوى نجدهما في رسالة أخرى معنونة بـ"هناك شجرة خروب" وكتبت في باريس وفيها يروي حوارا طريفا جمعه بصحفي في التلفزيون الهولندي إذ يقول .. "انقض علي أحد المحاورين، وهو كاتب فنلندي شهير بهذا السؤال المدهش.. هل تعرف كيبوتس "يسعور"؟ أجبت. نعم أعرف مكانه لأني أعرف أنقاضي، ولكن، لماذا تحرك في هذا العطش؟ قال أنا من هناك. أعني عشت هناك عشر سنين. ومن حقي أن أعود إلى هناك في أي وقت أشاء.. قلت.. في أي وقت تشاء؟ لماذا؟ قال.. لأني يهودي.

قلت له وقد تحول إلى مرآة.. يا سيد دانيال كاتس.. يبدو لي أنك تعرف أنني ولدت هناك، تحت غرفة نومك، وتعرف أن لا حق لي في العودة إلى مكان ولادتي بينما أنت الفنلندي صاحب العشرين ألف بحيرة، تملك الحق في العودة إلى بلادي في أي وقت تشاء". ولعلنا لاحظنا، وأحسسنا بطعم المرارة في حلق محمود درويش، وهو يتجرع مرارة المنفى والغربة عن أرضه الأم.

أما الصنف الثاني من الرسائل فهي رسائل السخط والعار.. ففيها إبداء لبعض مواقف الانكسار التي شهدها الشاعران.. ففي رسالة تلفونية تحمل عنوان "خذ القصيدة عني" يقول واصفا زمن الردة العربية .." لقد تعلمت الأمة نعمة الصمت الحكيم، وتعلم الإسرائيليون بعض التقاليد العربية، وفي مقدمتها ردة الرجل إلى بيت العروس. شمعون بيريس في القصر الملكي المغربي. معمر القذافي لا يصدق. لا يصدق إلى الحد الذي جعله يصدق أن هذه الزيارة مخالفة لاتفاق الوحدة الموقعة في وجدة.. أما جامعة الدول العربية، فإنها مازالت مشغولة في البحث عن ميزانية لتشييد مبناها الجديد اللائق بوضعها الجديد. شلوم عزيزي سميح شلوم.. ولكني لا أظن أن من حق السادات أن يفرح كثيرا فمازال في رزنامة العرب ما هو أشد سوادا".
وبنفس نبرة الحزن والسخرية يضيف ".. شلوم سميح شلوم.. هل تذكر العهد الذي كانت فيه السياسة العربية تستنجد بأمريكا لتحميها من طيش إسرائيل.. لقد امتد بنا الأجل لنرى كيف تستنجد السياسة العربية بإسرائيل لتحميها من العدوان الأمريكي ومن الإفلاس". ليخلص في النهاية مخاطبا سميح القاسم .." انظر، إذا كان في وسعك بعد أن تنظر إلى فردوس الصمت الممتد من طنجة إلى عدن.. واضحون كالفضيحة. متساوون كالرمال.. حكماء كالعبيد، وبلا قناع في مسرح العبث المفتوح بلا قناع في مسرح العبث المفتوح بلا قناع.. كم من قناع سوف يسقط؟ كم مرة سنقول "سقط القناع" لكي نرى بشكل أوضح.. لا أقترح جوابا. إني أطل على صحراء..".
#3#
تشع من خلال عبارات الرسالة هاته نبرات حزينة مغلفة بسخرية قاتلة.. وفي المحور الثالث نجد رسائل الحب والأمل.. وهي رسائل أقرب إلى الإفضاءات الذاتية.. وقد اخترت عينات من هنا وهناك.. لأنه لا يكفي في هذه الإطلالة القصيرة أن نلم بجميع الرسائل.. ففي رسالة "لن يفلت أحد من شهوتنا" يقول سميح القاسم .. "أخي محمود.. مسكين ساعي البريد المتنقل بيننا مثل رقاص ساعة أثرية. مسكين ساعي بريدنا، حمل رسالتك- دمعتك - الأخيرة، فحملته الحيرة كيف يوصلها إلي؟ كيف ومن أين ومتى؟".

محمود يا أخي. أية لوعة في القلب أودعتها رسالتك؟ إن صرختك المتحشرجة " خذ عني القصيدة" هي التكثيف النهائي والكامل لألمنا الفلسطيني". ها أنذا أرتاح قليلا، حين أكتب إليك فإنني أكتب إلى نفسي.. ويا لها من مناورة رائعة هذه التي نتعزى بها في زمن شح فيه العزاء". وفي رسالة أخرى تحمل عنوان "شقاء يوم الثلاثاء" يقول محمود درويش .. " عزيزي سميح.. لا نطوي هذه الصفحة إلا لنبدأ كتابا جديدا، فإلى أين أنت ذاهب في ربيع شديد الغموض؟ ثم يقول .." سافر فيك، كما يطيب لك السفر المضاد. لعل في أقاليم القلب ما يعوض عنك هزائم الجغرافيا وتبدل فصول ستجدها هناك. في القلب أكثر فوضى، وغموضا مما هي عليه في الخارج. أما كان في مقدور وردة مخبأة في داخلك أن تتفجر فجأة لتجتاح قارة من الجليد..".

هناك أيضا يعرج الحديث على هموم حياتية أخرى، وانشغالات ثقافية واجتماعية كما جاء في رسالة "منذ البداية " التي تتعرض لحدث تأسيس اتحاد الكتاب العرب في الوطن المحتل، فيقول محمود درويش .. عزيزي سميح القاسم.. ليس حدثا عاديا في ظروف غير عادية أن تنجح أنت وإخوانك الكتاب في تأسيس أول اتحاد للكتاب العرب في الوطن المحتل بعد أربعين عاما من الاحتلال .. أربعون عاما لا تنظر إلى الوراء بحزن..لا تنظر إلى الوراء إلا لتعرف إلى أين وصلت بنا الطريق.. للأعداء حساباتهم ولنا حسابنا.. إلى أن يقول.." وإلى أن يتم ذلك . أتمنى لك النجاح في موقعك الوطني والثقافي الجديد، وأتمنى لك المقدرة على التعايش مع ما ينغص مناخ هذا الإنجاز من حيث انشقاق لا مبرر له..".

وفي رسالة أخرى كتبت في باريس بتاريخ 1988/2 يقول فيها محمود درويش.. وهي تحمل عنوان كرم نابوت. ومهنة الورد.. "عزيزي سميح، سأعترف لك الآن بأنني كنت في حاجة ملحة إلى هذه العودة من قبل.. في الصيف المر الذي لم ينقذني فيه سوى الليلك من وحشة جديدة في الغربة القديمة. ويقول أيضا.. وهي عبارات تحمل من الحب والأمل الشيء الكثير .." ومن هذا الحجر سننشئ دولة العشاق.. هكذا قال لي الإيقاع قبل سبع سنين دون أن أعني هذه الفطرة، هذه السليقة ولا هذا السلاح.. ألا تمتلئ أغصان شجرتنا العارية بملايين من عصافير تأتي لا لترحل، بل لترتديها الشجرة في هذا الربيع المبكر، أو المتأخر، كأنها تنبثق من كل حبة رمل لتختم على مرحلة العسر والعقم بولادة العمر كله..".

إن هذه الحميميات لا تخلو هي الأخرى من إفرازات أخرى، فحتى في حديث الذات عن همومها تتجلى هموم الوطن الجريح مما يعني أن الشاعرين لا ينظران إلى ذاتهما إلا من خلال عيون الوطن، وانكسارات المواطن العربي من الماء إلى الماء.
ومن جملة ما يمكن استنتاجه من خلال هذه القراءة لأدب الرسائل بين شاعرين كبيرين هما الراحل محمود درويش، والشاعر سميح القاسم ما يلي:

- إن أدب الرسائل فن أدبي قائم بذاته ولا يزال يحظى باهتمام الأدباء والنقاد رغم انحساره.

- قد يكون أدب الرسالة أحد أهم الفنون الأدبية على الإطلاق لإسماع صوت الشعوب.

- قد يخرج فن الرسالة من إخوانيته، ليخترق جدار الوطنية والقومية، والعكس صحيح.

- تبدو من خلال الرسائل تلك القدرة، والبراعة النادرة التي مثلما ميزت شعر الشاعرين أبانت عن باعهما النثري، فهما ينثران كأنهما يقولان شعرا بتلقائية، وبكثير من الجمالية، والإبداع.

الأكثر قراءة