بالخطأ .. «بنك إنجلترا» يكشف توجها للانسحاب من الاتحاد الأوروبي
منذ أن فاز حزب المحافظين بالانتخابات العامة البريطانية، والجدل الرئيسي الذي تشهده المملكة المتحدة يدور حول سؤال واحد، وهو هل تبقى لندن عضوا في الاتحاد الأوروبي أم تنسحب منه؟
الجدل بطبيعة الحال يتمركز في وسائل الإعلام البريطانية، فلا يمضي يوم إلا وتجد خبرا أو تعليقا أو مقالا حول بريطانيا والاتحاد الأوروبي والفوائد والخسائر التي يتوقع أن تعود على لندن من جراء البقاء في عضوية الاتحاد أو الانسحاب منه.
لكن الإعلام البريطاني ظل عاجزا عن الكشف عما تقوم به حكومة المحافظين من تدابير تجاه مستقبل عضوية البلاد في الاتحاد، إلى أن كشف بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) عما يحدث ولكن بطريق (الخطأ) على حد قول المسؤولين فيه.
فقد أكد بنك إنجلترا أنه يبحث المخاطر المالية الناجمة عن الانسحاب من التكتل الأوروبي، ولكن تأكيد البنك جاء "إجبارا" وليس "اختيارا"، فبالخطأ على حد زعم البنك أرسل مسؤول بارز فيه رسالة بالبريد الإلكتروني إلى محرر في صحيفة "جارديان" البريطانية، يكشف فيها عن دراسة البنك لفوائد وأضرار البقاء أو الانسحاب من الاتحاد. الخبر يعد أول تأكيد رسمي أن بنك إنجلترا وبالطبع الحكومة تدرس بدقة النتائج المحتملة للاستفتاء الذي سيتم بهذا الشأن.
وكشفت رسالة البريد الإلكتروني أن مجموعة صغيرة من كبار موظفي البنك يترأسها السير جون كونليف نائب مدير البنك للاستقرار المالي ستراجع التأثيرات الاقتصادية المتوقعة لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن الحكومة البريطانية تريد التكتم على تفاصيل تلك المجموعة من المختصين بقدر الإمكان، إذ أشارت رسالة البريد الإلكتروني إلى أن المجموعة المكلفة بهذه المهمة وتعرف باسم "بروجيكت بوك إيند" سيشار إليها دائما على أنها تعني ببعض المسائل المتعلقة بالاقتصاد الأوروبي دون الإشارة إلى أي تفاصيل أخرى.
ويقول لـ "الاقتصادية"، دي إم ستيفن الصحافي البريطاني، إنه من المستبعد طبعا أن يكون الأمر مجرد خطأ من مسؤول بارز في بنك إنجلترا، وإنما أعتقد أنها رسالة متعمدة من قبل حكومة المحافظين لعدد من الأطراف الداخلية والخارجية في آن واحد.
وأضاف ستيفن، أنه بالنسبة للداخل فإنها تبعث برسالة للعديد من كبار الرأسماليين البريطانيين الراغبين في مغادرة الاتحاد الأوروبي، لأنهم باختصار غير قادرين على منافسة نظرائهم الألمان، ولديهم شعور بأن الاقتصاد الألماني يمر الآن بفترة صعبة، ولكن بمجرد استعادة عافيته فإنه سيطيح بالجميع، ويفرض هيمنته على السوق الأوروبية، ولذلك كاميرون يريد أن يؤكد لهؤلاء الرأسماليين الذين دعموه بقوة في الانتخابات البرلمانية بأنه ملتزم بوعوده، كما يريد أيضا أن يبعث برسالة إلى أنصاره من اليمين واليمين المتطرف الذي يطالب بالانسحاب من أوروبا بأنه ملتزم بوعوده.
ويستدرك ستيفن قائلا إن التسريب الذي تم يستهدف إبلاغ العواصم الأوروبية وتحديدا برلين وباريس وروما وبروكسل أن لندن جادة في رغبتها بالانسحاب من الاتحاد، وأنهم إذا كانوا حرصاء على بقاء بريطانيا فعليهم تقديم تنازلات لها خاصة في مجال الهجرة.
ومع هذا فإن جون وايت الصحافي في "جارديان" والمختص في شؤون الاتحاد الأوروبي يستبعد أن تكون وثيقة بنك إنجلترا سربت عمدا، وأن الطابع السري الذي أحاطت به الحكومة البريطانية عمل لجنة "بروجيكت بوك إيند" يعود إلى رغبتها في أن يتم بحث الانسحاب أو البقاء في الاتحاد على أساس اقتصادي محض بعيدا عن السياسة وتأثيراتها المختلفة.
وأضاف أن إعلان الحكومة للرأي العام عن تشكيل تلك اللجنة، سيكون محل جدل وتشكيك من قبل أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي، ولا شك أن ذلك سيمثل ضغطا على الأعضاء، وربما على قرارهم، ولهذا فضلت الحكومة إبقاء الموضوع سرا.
وبالفعل فقد عقد ديفيد كاميرون اجتماعا مع نظرائه الأوروبيين هو الأول من نوعه منذ أعيد انتخابه لمنصب رئاسة الوزراء، وقد استبق كاميرون الاجتماع بتصريحات كشفت عن حجم التوتر الراهن بين لندن والعواصم الأوروبية إذ صرح لوسائل الإعلام قائلا " ألتقي قادة أوروبا وليس هناك كثير من الود بيننا، وإذا كانت المباحثات تهدف إلى حصول بريطانيا على تنازلات من قبل بروكسل بشأن عضويتها في الاتحاد، فإن كاميرون سعى إلى تذكير القادة الأوروبيين بأنه لم يقم حتى الآن بالإعلان عن موقف واضح وقاطع بشأن دعمه لانسحاب لندن من الاتحاد.
وبعيدا عن نتائج اجتماعات كاميرون أو ما إذا كان الكشف عن دراسة بنك إنجلترا لتبعات الانسحاب والبقاء في الاتحاد الأوروبي جاء خطأ أم عمدا، فإن السؤال المطروح هو عن حجم الخسائر أو الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها لندن من "طلاقها" من أوروبا.
الدكتور ماكس أوين أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة كامبريدج وأحد أبرز المدافعين عن البقاء في الاتحاد يؤكد أن البعض يتوهم أن الطلاق بين لندن وأوروبا سيكون طلاقا "متحضرا" و"سلميا" و"وديا"، وهذه أوهام يروج لها الراغبون في مغادرة أوروبا، لكن على العكس سيكون الطلاق عنيفا.
وإذا كانت لندن تعتقد أن الدول الرائدة في الاتحاد مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا ستتنازل وتسمح لها بأن تختار من قوانين الاتحاد ما تريده وترفض القوانين الآخرة لأنها لا تتلاءم معها فهذه أضغاث أحلام.
وأضاف أوين أنه يجب ألا يعتقد الرافضون البقاء في الاتحاد الأوروبي أن مفاوضتنا مع الاتحاد ستسفر عن وضع مشابه للنرويج وسويسرا، فهما يتمتعان بعلاقات جيدة مع الاتحاد ولكنهم غير أعضاء، وعلى أي حال فإن هذه الدول مجبرة على الالتزام بعديد من قواعد الاتحاد دون أن يكون لهم أي تأثير في صياغة قوانينه.
ولا يعتقد أوين أن لندن ستتمكن من التفاوض على اتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، والأخطر أن الصادرات البريطانية للاتحاد ستخضع لرسوم جمركية كبيرة وفي الوقت نفسه عليها تطبيق معايير الإنتاج الأوروبي.
ويعتقد المراقبون أن الورقة الأقوى لدى المدافعين عن البقاء في الاتحاد، تتمثل في أن خروج لندن من عضويته تعني خسارة الملايين من العمال البريطانيين وظائفهم، نتيجة الكساد الذي سيضرب كثيرا من الصناعات البريطانية، المعتمدة أساسا على التصدير لأوروبا.
إلا أن المؤيدين للانسحاب من الاتحاد يردون بالقول إن ذلك سيكون وضعا مؤقتا حتى تقوم الصناعات البريطانية بإعادة هيكلة نفسها، كما أن عديدا من الشركات الأوروبية العاملة في بريطانيا، قد يرفض مغادرة المملكة المتحدة حتى في حالة الطلاق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، إذا وجدت أن معدلات الربحية أعلى إذا أبقت مصانعها وأعمالها في بريطانيا مقارنة بنقلها للقارة الأوروبية.
وتشير الدكتورة سيدني فوت العضو في حزب استقلال المملكة المتحدة وأحد المطالبين بانسحاب بريطانيا من الاتحاد، إلى أن الخروج من أوروبا سيسمح لنا بالتخلص من القوانين الصناعية المقيدة للاتحاد، ومن ثم أتوقع أن يرتفع معدل النمو الاقتصادي، وهذا يعني في حقيقته مزيدا من فرص التوظيف، وأرجح أن يطول الانتعاش الشركات الصغيرة والمتوسطة التي لا تستفيد من عضوية بريطانيا في الاتحاد، لأن السوق المحلية هي سوقها الأساسية.
ويرجح المختصون أن تصاب صناعة السيارات وقطاع الخدمات المالية، الذي يقوم بتوظيف نحو 2.1 مليون شخص بخسائر قوية إذا ما أسفر الاستفتاء المقبل عن خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد.
فجزء كبير من صناعة السيارات البريطانية تعود ملكيته إلى رؤوس أموال أجنبية، ولن يكون لديهم مصلحة في بقاء نشاطهم في بريطانيا إذا قررت أوروبا فرض رسوم جمركية على السيارات البريطانية، وغالبا ما سيأخذ أصحاب تلك الصناعة من الأجانب قرارهم بالانتقال إلى بلدان أوروبية أقل تكلفة ليضمن لهم ذلك الاستفادة من الامتيازات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ضخامة السوق الأوروبية مقارنة بنظيره البريطاني.
وقد أصدر مركز الأداء الاقتصادي التابع لمدرسة لندن للاقتصاد دراسة حول التأثير الاقتصادي المتوقع لخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد أشار فيها إلى أن أسوأ سيناريو يمكن أن يواجه الاقتصاد البريطاني في حالة الخروج من الاتحاد الأوروبي هو تراجع الناتج المحلي الإجمالي بما يتراوح بين 6.3 في المائة و 9.5 في المائة وهي خسارة توازي تقريبا الخسارة الاقتصادية التي تعرض لها الاقتصادي البريطاني من جراء الأزمة الاقتصادية عام 2008، أما أفضل سيناريو فهو أيضا أن يتعرض الاقتصاد البريطاني للخسارة ولكن بنسبة لا تزيد على 2.2 في المائة.
وبغض النظر عن الخسائر أو الأرباح التي ستتعرض لها بريطانيا في حالة انسحابها من الاتحاد، فإن أغلب الاقتصاديين يعتقدون أن الاقتصاد الأوروبي لن يبقى على وضعه الراهن إذا ما قرر الناخب البريطاني الخروج من النادي الأوروبي، ولربما تفقد بريطانيا دورها الراهن كجسر اتصال بين ألمانيا وفرنسا من جانب والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر، ولهذا تكلفة اقتصادية قد يصعب حسابها بالأرقام.