هل نحن مقدمون على أزمة عالمية بخروج اليونان من اليورو؟

كان أهم وعد قدمه حزب سيريزا للشعب اليوناني لكي يحصد الفوز بالانتخابات اليونانية هو أن اليونان لن يفرض عليها أحد التقشف بعد اليوم، وهو وعد، كما ذكرت مسبقا، لم يدرك سيريزا أبعاده، أو مدى قدرته على تحقيقه. الذي لا يدركه سيريزا هو أن سياسات التقشف أصبحت سياسات حتمية، أي ستطبقها اليونان سواء أكان ذلك بضغوط من دائني اليونان، أو بواسطة الحكومات اليونانية ذاتها، وذلك في مواجهة الزلزال الذي سيتبع خروج البلاد من منطقة اليورو، وأعتقد أن السياسات التقشفية التي ستتبعها اليونان عقب الخروج من اليورو، ستطبقها حكومة أخرى غير حكومة سيريزا، حيث إنه إذا خرجت اليونان من اليورو، فلن يظل سيريزا طويلا في الحكم، وسواء وقعت اليونان اتفاقا مع دائنيها أم لا، فإن الإصلاح المالي سيظل أمرا حتميا للسيطرة على عجز الميزانية والنمو في الدين الخارجي لليونان، وهذا لن يكون أمرا هينا، ولا من دون تكلفة من رفاهة رجل الشارع، فهناك الكثير من الإصلاحات المالية والضريبية المطلوب البدء فيها لضمان استدامة المالية العامة في اليونان.
المتتبع لتطور الأحداث في الأسابيع القليلة الماضية يصل إلى قناعة بأن لحظة الحقيقة ربما تكون قد اقتربت، كما أن الكتابات عن خروج اليونان تفوق بكثير ما يكتب عن احتمالات استمرارها، على الرغم من أنني شخصيا ما زلت غير مقتنع باحتمال انسحاب اليونان.
الاعتقاد العالمي السائد حاليا هو أن اليونان على حافة الخروج من المنطقة والعودة مرة أخرى إلى عملتها القديمة "الدراخمة"، والانتقال من تبني ثاني أقوى عملة في العالم، إلى عملة ستبقى في مهب رياح التغيير التي ستعم اليونان بعد خروجها. بل إن بعض جدران الشوارع أخذت تحمل عبارات تمهد لعودة الدراخمة، وبعضها يعتذر لها طالبا الصفح، بعد أن هجروها إلى اليورو، في إشارة إلى معاناة الشعب اليوناني في الوقت الحالي.
بلا شك مثل هذه الصياغات تعبر عن سوء فهم خطير لحقيقة الأوضاع على الأرض، فلم تكن مشكلات اليونان بسبب اليورو، بالعكس لقد تمتع الاقتصاد اليوناني باستقرار نقدي أكبر، ومعدلات تضخم أقل، ومستويات دخول ورفاهية أعلى، مع تبني اليورو بديلا عن الدراخمة.
سيريزا يتشدد في المفاوضات مراهنا على ضخامة حجم المخاطر التي ستلحق بمنطقة اليورو، والتي ستجبر الترويكا، بصفة خاصة البنك المركزي الأوروبي، على التنازل عن شروطهم القاسية لإنقاذ اليونان، لكننا في المقابل نجد أن المفاوضين الأوروبيين أظهروا أيضا تشددا مماثلا، لدرجة جعلت رئيس الوزراء اليوناني يتهم الدائنين بأنهم يهينون الشعب اليوناني، وهي اللغة التي لا تساعد على الدخول في مفاوضات بناءة لتجاوز الأزمة الحالية بين اليونان ودائنيها.
ولكن من هو الأكثر عرضة للمخاطر الناتجة عن خروج اليونان، هل هي اليونان أم منطقة اليورو؟ وهل تتكرر أزمة ليمان براذرز ليحدث خروج اليونان من اليورو ذات الصدمة العالمية التي أطاحت بالأسواق في العالم وتبعتها الأزمة المالية العالمية التي أحدثت أكبر ركود اقتصادي عالمي في العصر الحديث؟ شخصيا أعتقد أن الإجابة هي لا.
على الرغم من محاولات التهوين من الآثار التي يمكن أن تطال اليونان جراء خروجها، فقد جاء تقرير البنك المركزي اليوناني الذي قدم للبرلمان يوم الأربعاء 17 حزيران (يونيو) محدثا صدمة للجميع، حيث نبه إلى أن فشل اليونان في التوصل إلى اتفاق مع الدائنين سيقود حتما إلى خروج اليونان من منطقة اليورو، وهو ما يمهد أيضا لخروجها من الاتحاد الأوروبي. كما نبه إلى أن التوصل إلى اتفاق مع شركاء اليونان في المنطقة له أهمية قصوى اليوم لمواجهة المخاطر التي ستلحق بالاقتصاد اليوناني بصورة مباشرة جراء ذلك، بصفة خاصة تخلف اليونان عن سداد التزاماتها، وهو ما يعد إعلانا بالإفلاس من الناحية الفنية، وتحول أزمة ديون اليونان من أزمة يمكن التعامل معها من خلال اتفاقيات المساندة، إلى كرة ثلج وأزمة لا يمكن السيطرة عليها، بما لها من آثار خطيرة على النظام المصرفي والاستقرار المالي في اليونان، وأن خروج اليونان لن يؤدي إلا إلى تعقيد الأوضاع الحالية في اليونان، مصحوبا بأزمة أسعار صرف خطيرة، ومشكلة تضخم خارج نطاق السيطرة. كل هذا سيؤدي، كما يشير البنك، إلى كساد عميق في اليونان، وانخفاض كبير في مستويات الدخول، وزيادة رهيبة في معدلات البطالة، وربما انهيار لكل ما حققه الاقتصاد اليوناني منذ التحاقه بالاتحاد الأوروبي وعضويته في منطقة اليورو، وستتحول اليونان إلى إحدى أفقر دول الجنوب الأوروبي.
أعتقد أن هذه العبارات الصريحة، هي ما كان يحتاج الشعب اليوناني إلى أن يسمعه أثناء الانتخابات الأخيرة، ولكن سيريزا كان يدغدغ مشاعره باللعب على وتر المعاناة التي يعانيها في ظل الأوضاع السائدة، في الوقت الذي لم يشرح فيه أحد للشعب بأمانة، أو ربما لأن قطاعا عريضا من الناس كان لا يريد أن يسمع، عن الأبعاد الحقيقية لما يدعو إليه سيريزا. فالغالبية كانت تريد أن تخرج مما هي فيه، ولكنها مع الأسف لا ترى الهاوية السحيقة التي تنتظرهم عند الباب، ومع ذلك فإن استطلاعات الرأي أشارت أخيرا إلى أن قطاعا عريضا من الشعب اليوناني أصبح يدرك اليوم المغزى الحقيقي لتبعات خروج اليونان من اليورو، وأنهم بالفعل مستعدون لأن يرضخ المفاوضون اليونانيون لمطالب الدائنين.
والآن أعود إلى سؤالي السابق، هل العالم مقدم على أزمة بخروج اليونان من اليورو مثل تلك التي أحدثها إفلاس ليمان براذرز؟ بالطبع يخطئ من يعتقد أن خروج اليونان سيكون سهلا. فمن المؤكد أن خروج اليونان سيحدث صدمة في الأسواق، لكن أسواق المال في العالم اليوم تختلف عن حالها عشية إعلان إفلاس ليمان براذرز، فقد كانت ميزانيات المؤسسات المالية الكبرى في العالم وقتها مليئة بالأصول المسمومة، وكان الكثير من أدوات الاستثمار المالي بلا دعامة حقيقية تسنده، كما أن درجة التشابك بين المؤسسات المالية المصدرة والمحتفظة بالأصول المسمومة كانت معقدة على النحو الذي ساعد على تهاوي الأسواق، وتعاظم أثر الصدمة مع نقص السيولة في الأسواق.
اليوم الوضع مختلف بشكل جوهري، فالقوائم المالية للمصارف والمؤسسات المالية في العالم أكثر تماسكا والمصارف أكثر استعدادا لتحمل الخسائر التي يمكن أن تنجم عن خروج اليونان، فالقوائم المالية للمصارف الأوروبية لم تعد تتضمن ذلك القدر الكبير من السندات الحكومية اليونانية مع تحول جانب كبير من ملكيتها من المصارف إلى المؤسسات الحكومية في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يقلل من احتمالات تعرضها لخسائر ثقيلة في حالة إفلاس اليونان. أكثر من ذلك فإن اختبارات الضغط المتتالية التي أجريت على المصارف الأوروبية أشارت إلى متانة أوضاع هذه المصارف في مواجهة الصدمات المستقبلية، مع الجهود التي بذلتها هذه المصارف لتقوية رساميلها.
الأهم من ذلك كله أن منطقة اليورو ذاتها اليوم أكثر تماسكا واستعدادا لتحمل صدمة خروج اليونان، مقارنة بأوضاعها منذ سنوات قليلة مضت، عندما كان إعلان إفلاس اليونان حتميا لولا حزمة المساعدات التي قدمتها الترويكا، ففي الوقت الذي كانت اليونان على وشك الإفلاس، كانت هناك مصائب أكبر في الطريق يمكن أن تنهار مع إفلاس اليونان، والتي تتمثل في انهيار كل من إسبانيا وإيطاليا، لكن اقتصادات هاتين الدولتين اليوم أفضل وتحققان أداء أكثر تماسكا عن ذي قبل. السيناريو الأكثر احتمالا إذن في حالة الخروج هو أن ًُُُُُُُيحدث اضطرابا في منطقة اليورو، وأسواقها، وبالطبع أسواق المال في العالم، ولكن لفترة زمنية قصيرة، سرعان ما تتماسك بعدها الأسواق.
من جانب آخر، فإن العامل الأكبر الذي يقوي قدرة النظام المالي الأوروبي على مواجهة تبعات صدمة خروج اليونان يتمثل في السياسات النقدية التوسعية الحالية التي يتبعها البنك المركزي الأوروبي، والتي بمقتضاها يقوم حاليا بشراء السندات، والتي تمكن من تدبير السيولة اللازمة للأسواق حال عجز النظام المالي عن تدبير السيولة المناسبة.
باختصار اليونان كدولة مدينة لم يعد لديها اليوم من خيار سوى أن تنصاع لمطالب المقرضين، مع محاولة تعظيم عوائدها من المفاوضات على النحو الذي يقلل من أعباء السياسات التقشفية على مواطنيها، وفي الوقت ذاته يوفر السيولة اللازمة لتجنب الوقوع في مصيدة التخلف عن سداد التزاماتها نحو الدائنين، وما زلت أعتقد أن اليونان ستخضع، وأن اتفاقا ما سيبرم في آخر دقيقة لتجاوز كل هذه المخاطر على كل من اليونان ومنطقة اليورو.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي