المدينة المنورة .. مشاريع عملاقة في مدينة كل العصور

المدينة المنورة .. مشاريع عملاقة في مدينة كل العصور
المدينة المنورة .. مشاريع عملاقة في مدينة كل العصور
المدينة المنورة .. مشاريع عملاقة في مدينة كل العصور

مرت المدينة المنورة بعديد من الأحداث التاريخية التي أثرت في وجدان من مروا عليها، حولتهم إلى مدنيين رغما عنهم، فما بين أحداث عصيبة وسنين عجاف، عبر مر العصور المختلفة، ولا سيما في عام 1915 وقبل مائة عام من الآن، عاشت المدينة المنورة أحلك أيامها مع عملية التهجير الشهيرة "سفربرلك" خلال الحرب العالمية الأولى من جانب السلطنة العثمانية التي حولت فيها المدينة إلى مدينة مهجورة لا زرع فيها ولا ماء، ولأنها المدينة المنورة فقد غيرت وتغيرت فيما بعد، لتصبح مدينة كل العصور، ويحكي التاريخ ويحكي ولا يقف عند النهاية.

مرت 50 عاما بعد ذلك، وسرعان ما دبت فيها الحياة وعادت إلى طبيعتها، وها هو العم صالح الحجار صاحب العقد الثامن من العمر يحكي لنا عن رحلته في شوارعها الصغيرة ودروبها الضيقة ليترسخ في ذاكرته منذ أن كان ابن الـ 17 تفاصيل الطرق الصغيرة الملتوية التي تقود إلى المسجد النبوي، حيث أسوار المدينة التاريخية ممتدة حوله وحول مئات البيوت الصغيرة المنتشرة في المنطقة، لتخلق حالة من الوحدة السكانية المترابطة بعرى الجدار الملتف حولها مغلقا المدينة التاريخية عمن هو خارجها، ومنفتحة على العالم الآخر بسبعة أبواب، تداعت مع النهضة العمرانية التي انطلقت آنذاك.

يقول العم الحجار "إن السور التاريخي الذي ضرب حولها اشتمل على أبواب سميت بأسماء لن ينساها ولن تمحى من ذاكرة أهالي المدينة المنورة على الرغم من قرون مضت فما بين باب التمار، والمجيدي، والكومة والعنبرية والباب المصري، تاريخ طويل يحكيه لنا شاهدون على الماضي بأصالته، بخلاف باب الشامي والعوالي، حيث ظلت تلك الأسماء مفضلة آنذاك، للإشارة إلى العناوين داخل المدينة المنورة التي بدأت في التطور وكسر أسوارها الحصينة، معلنة نفسها مدينة مفتوحة طوال العام للزائرين والعاكفين والركع السجود، أما سكانها الذين لم تكن تناهز أعدادهم في أقصى المبالغات عشرة آلاف نسمة يتوزعون أدوارا جديدة تناسب الشكل الجديد والمفتوح للمدينة النبوية لتزدهر حركة الزيارة وتبدأ بواكير الإدلاء التي تحولت لاحقا إلى مؤسسة تضم أعرق البيوت المدينية التي اهتمت بأعمال الحج والزيارة، فيما طغت أعمال الزراعة والصناعة البسيطة على المظهر الاقتصادي للمدينة قبل تلك الأعوام".

وحول المدينة وتاريخها ما إن تسأل إلا وتجد من يحكي ويحكي من شيوخ المدينة المنورة الذين بلغوا من العمر عتيا، يصفون لنا مسيرتهم بين أبواب المدينة السبعة مشاهدين بقايا السور المتهدم قاصدين المسجد الذي اكتفى حتى حينه بالتوسعة العثمانية ليروا الأسواق الملاصقة للمسجد والقبة الخضراء التي تعلو البناء ومئات المصلين الذين يترددون عليه، غالبهم من أبناء المدينة قبل أن تزدهر حركة الزوار، وكذلك الدور السكنية القليلة التي في الجوار لا تكاد تكفي آلافا قليلة من الزوار لكنها كانت تتميز برخص أسعارها وقربها من المسجد.

#2#

لم تعرف المدينة حينها نشاطا ثقافيا أو رياضيا، غير بواكير العمل المؤسسي الذي اقتبسته من مدن أخرى في المملكة، حيث بدء بعض مثقفي المدينة المنورة في تلك الفترة الخطوات الأولى لتأسيس نادي العقيق الثقافي قبل أن يتحول إلى نادي المدينة الأدبي، عبر شخصيات أدبية وثقافية كان من أبرزها عبدالعزيز الربيع ومحمد العيد الخطراوي وحسن صيرفي ومحمد هاشم رشيد وعبدالرحمن الشبل، فيما بدا النشاط الرياضي خجولا في تلك الفترة قبل أن يزدهر مع ازدهار الرياضة السعودية في ثمانينيات القرن الماضي.

ضربت المدينة المنورة قبل نصف قرن مثالا رائعا من اللحمة الاجتماعية في تلك السنوات حيث البيوت المتلاصقة والقلوب المتقاربة قبل أن تتباعد البيوت ومعها القلوب، وتظل المدينة المنورة التي تحولت إلى مدينة عصرية محافظة على نسقها من العلاقات الاجتماعية تحفظها البيوت المدينية خصوصا في مزارعها حول المدينة التي احتوت فيها معاني الأصالة والاحتفاء والكرم وصلة الرحم.

يتذكر أبناء المدينة المنورة كبارا وصغارا ما هم فوق الأربعين أنه خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي لم تختلف "طيبة" حينها، في جذبها الزائرين، حيث منذ القدم وهي تغري أحبابها بزيارتها لأسباب مختلفة إلى جانب كونها مدينة دينية، حيث إنه منذ الطفرة الأولى (في الثمانينيات) ارتفعت أعداد المقيمين في المدينة وتوسعت عمرانيا لتشكل أحياء جديدة تلتف على "طريق سلطانة" الشارع الأوسع نموا حينها والأكثر إغراء وهو الطريق الممتد بين شمال غربي المسجد النبوي إلى الجامعة الإسلامية متصلا بأبرز معالمها التاريخية كمسجد القبلتين والمساجد السبعة.

وعن المسجد النبوي الشريف فقد تحول إلى مركز للتطوير، وذلك في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، حيث زادت مساحته إلى ضعف مساحته القديمة، حيث أنشئت المنطقة المركزية الملتفة حول المسجد خاصة في جزئيه الشمالي والجنوبي لتعطي وسائل راحة عصرية للزائرين تجعل رحلة زيارتهم أكثر سهولة وتيسيرا عبر الفنادق الفخمة المطلة مباشرة على الحرم ومن خلال مؤسسات الحكومة وأجهزتها المنتشرة في المنافذ والساحات لخدمة الزوار.

#3#

وظل مطار المدينة المنورة محليا بحتا لفترة طويلة إلا أن حركة الزائرين كانت نشطة خصوصا أولئك القادمين من أقرب مطار دولي في جدة، وتشير تقارير لعام 1992 إلى قدوم قرابة نصف مليون زائر إلى المدينة المنورة في مواسم رمضان والعمرة، حيث ازدهرت حركة السياحة الداخلية لتنشط الفنادق جنبا إلى جنب مع الدور السكنية المجاورة للمسجد من جانبه الشرقي قريبا من سوق العنابية التي لم تطالها عمليات التوسعة لتكون تلك الدور الرخيصة السعر خيارا محببا لمحدودي الدخل المحبين لمجاورة الرسول الكريم ولو لأيام قليلة.

ومع التوسع العمراني للمدينة القافزة في أعداد سكانها الذي تجاوز نصف مليون في تلك الفترة، بدأت أحياء جديدة في التشكل لتولد أحياء العزيزية شمالا والحرة الشرقية شرقا ومخططاتها الجديدة والأزهري في الغرب، فيما ظلت منطقة قباء جنوبا محافظة على نسقها القديم إلا قليلا من أحياء ظلت مستمرة في انتشارها وصولا إلى الحرة الغربية مرورا بحي الدويمة.

كما نشطت أسواق العقار لتخلق أول قفزة هائلة في أسعاره لتتحول أسعار المتر المربع من خانة المئات إلى خانة الآلاف تبعا للقرب من المركز (المسجد النبوي) فيما مدت التنمية أطرافها وصولا إلى المناطق الجديدة لتعطي المبررات لارتفاع الأسعار.

وفي الجانب الثقافي هدأت الحركة قليلا في تلك الفترة على الأقل في الجانب الرسمي الذي يمثله النادي الأدبي، على عكس الحياة الرياضية لأندية المدينة المنورة التي كانت في أوج ازدهارها عبر ناديي أحد والأنصار، اللذين تبادلا الصعود إلى الدوري الممتاز لكرة القدم فيما احتكر نادي أحد بطولة السلة للمملكة لأعوام عديدة.

ورغم هذه الأجواء الجميلة لفترة التسعينيات من القرن الماضي للمدينة المنورة التي جمعت بين الحداثة والعراقة عبر الحفاظ على كثير من المواقع القديمة وجزء من تراثها الحديث نسبيا إلا أن حالة من تبدل الأنماط الاجتماعية شهدها كثير من الأوساط السكانية نتيجة تباعد الأسر المدينية بفعل التوسعة العمرانية للمسجد النبوي التي أزاحت السكان إلى أطراف المدينة لإفساح المجال لعشرات الزائرين والمصلين الذين تزايدت أعدادهم في العقود الأخيرة.

وتغيرت الحالة الاجتماعية في المدينة المنورة لتأخذ شكلا مدنيا حديثا قائما على الاستقلال للأسر الصغيرة بدلا من حالة الانصهار التي كانت سائدة في العقود السابقة بين الأسر الصغيرة والكبيرة والجيران في آن واحد، حيث تسببت الحياة الحديثة في البعد بين الأسر وخلقت فراغا بين أصحاب الحي الواحد إلا فيما ندر من وسائل تواصل وفرتها الهواتف الأرضية في تلك الفترة.

وبعد عقود ليست بالطويلة توسعت المدينة المنورة بشكل غير مسبوق، وشاهد أهلها شوارع مدينتهم التي كانوا يمشون في جنبات أزقتها وهم صغار، ولم يتبق منها إلا آثار التوسعة الجديدة التي أمر بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في 2009، حيث تحولت إلى مدينة عصرية تحظى بأكبر عدد من الزوار وتحفظ تاريخها الممتد لـ 15 قرنا لتعطيه طابع الاستمرار.

وتمر السنوات والعقود وتتحول المدينة المنورة إلى ورشة عمل كبيرة يتوسطها المسجد القديم الذي تزين بتوسعتين سابقتين وينتظر الثالثة كأكبر التوسعات التاريخية التي عرفها مسجد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ويقف على الأطراف منها مشروع القطار متخذا من شرق المدينة المنورة مركزا للانطلاق باتجاه مكة المكرمة، في الوقت الذي انتهى فيه العمل من المطار الجديد ليكون مطارا دوليا ذا شأن يلبي الطلبات المتزايدة للمسافرين من المدينة وإليها بعد أن فاق عدد سكانها حاجز المليون وأصبح عدد زوارها يقاس سنويا بالملايين.

وفي الجانب الثقافي، جرت في الأعوام القليلة الماضية مشاريع عدة أكدت اهتماما أكبر بالجنابين الثقافي والتاريخي للمدينة النبوية أبرزها مشروع طريق السنة الرابط بين قباء والمسجد النبوي ليكون طريقا للمشاة يذكر بالسيرة الخالدة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما صار الحي التراثي في حديقة الملك فهد محاولة لا بأس بها لتوثيق الحياة القديمة لأبناء المدينة ومحاكاة لأهم ملامحها.

وينتظر أبناء المنطقة نتائج المشاريع الضخمة والكبيرة في المدينة المنورة ومن بينها مشروع الإسكان ومشاريع النقل، لنقل المدينة المنورة إلى أفضل عهودها بعد أن شهدت فترات بارقة من الزمان كانت في أفضل عهودها مع أمل أن تكون الأيام المقبلة والمشاريع الجارية تحمل في طياتها خيرا كثيرا لأبناء المنطقة وزوارها.

وفي نهاية الرحلة التاريخية للمدينة المنورة أكد قاطنوها ممن بلغت بهم الحياة عقدهم الثامن والسابع، أنهم يرون وجها جديدا للمدينة غير الذي عرفوه صغارا قبل نحو ستة عقود، وجها يحمل خير العصور الحديثة لمدينة العصور القديمة والجديدة لتكون المدينة وفق توقعات اقتصادييها واحة استثمارية لأبنائها وواحة راحة وسكينة لزوارها.

ويتوقع المراقبون أن ينكشف ستار المشاريع الجارية في المدينة عن شبكة قطارات خارجية تبدو جاهزة حالية تربطها بجدة ومكة وأن تبدأ في المدينة قريبا مشاريع نقل عام داخلي تربط أبرز مواقعها بالمسجد النبوي في ظل الاتساع الأفقي المستمر لمنطقة المدينة المنورة، لتصبح المدينة المنورة مدينة كل العصور.‏

الأكثر قراءة