شركات الألبان .. لا للعودة إلى الوراء

في الوقت الذي يثلج الصدر كثيرا، أن تتقدم خطوات الإصلاح والتطوير والنهضة في بلادنا إلى الأمام، وأن تترجم فعليا على أرض الواقع، يفاجئك كثيرا من يأتي معاكسا لهذا الاتجاه، ويصدم الجميع بجرأته حينما يطالب بالتخلّي عن كل تلك المكتسبات، والعودة لما وراءها دون ذرة من اهتمام أو تقدير لأي اعتبار آخر!
تمكنت وزارة التجارة والصناعة وغيرها من الأجهزة الحكومية الأخرى من تحقيق وإنجاز الكثير، على طريق الإصلاح والتطوير طوال الأعوام الأخيرة، ودون مبالغة أتت بعض الإنجازات التي تمكن بحمد الله عديد من الأجهزة الحكومية من تحقيقها خلال فترة وجيزة، أقول أتت أبعد مما كان يتصوره عديد من الأفراد، ومن تلك المكتسبات التي أصبحت موجودة الآن في أيادينا بالكامل، ما حققته وزارة التجارة والصناعة من مؤشرات جيدة على طريق حماية المستهلك من الممارسات الواسعة للغش التجاري، والحماية من مختلف وسائل التلاعب والتهرب من خدمة ما بعد البيع.
إلا أن أحداثا وتطورات لافتة جرت أخيرا بين وزارة التجارة والصناعة من جهة، وشركات الألبان من جهة أخرى، زاد اشتعالها اتخاذ الوزارة للإجراءات النظامية الصحيحة تجاه إحدى كبرى شركات الألبان، حينما أعلنت عن مخالفتها وتغريمها لتلك الشركة، نتيجة تلاعبها في تاريخ الصلاحية، صدرت تلك المخالفة بحكم قضائي نافذ، وصُنّفت مخالفتها على أنها "غش تجاري"، لتأتي ردّة الفعل من طرف اللجنة الوطنية للألبان الطازجة في مجلس الغرف التجارية، بما لم يسبقها أحد فيما أتت به! لتطالب بإلغاء اشتراط وضع تواريخ الإنتاج على منتجات الألبان، والاكتفاء فقط بتاريخ انتهاء الصلاحية، وتعليل طلبها ذلك بأن المستهلكين يتجهون للمنتجات الأحدث إنتاجا "الطازجة"، ويتجاهلون الأقدم إنتاجا رغم صلاحيتها، ما يتسبب في رجيع كبير للألبان الصالحة للاستهلاك.
إننا نتحدث عن منتجات بالغة الأهمية على مستوى عديد من الاعتبارات، لعل من أهمها: (1) أنّها المنتجات التي لا تكاد تخلو مائدة من موائد أفراد المجتمع منها، وبالتالي فإن كل معلومة ترتبط بتلك المنتجات تحظى بالأهمية القصوى لدى المجتمع الاستهلاكي، ويحق للمجتمع أن تتوافر لديه. (2) أن منتجات الألبان عموما تحتل مرتبة متقدمة في مجال حصولها على الدعم الحكومي السخي، ولو أمعنا التحليل في المراكز المالية لأغلب الشركات العاملة في هذا النشاط، لوجدنا ارتفاعا لنسبة الدعم الحكومي في هوامش أرباح تلك الشركات قد يناهز 100 في المائة منها بالكامل. (3) أن تفاقم مخاطر ما تطالب به تلك الشركات لأجل تحقيق مصالح ضيقة الأفق تتعلق فقط بغايات ملاكها، وإن جاءت على حساب مصلحة الاقتصاد الوطني وعموم أفراد المجتمع، أقول إنّ تفاقم هذا النقطة تحديدا، واحتمال أن تتحول مستقبلا إلى سابقة سلبية وخطيرة جدا في تاريخ الاقتصاد الوطني، لن يكون في ميزان آثارها المدمرة عدم قدرة أية جهة حكومية الوقوف والتصدّي لأي ممارسات مخالفة أو احتكارية، إلا أن تأتي أقلّها شرّا وخطرا؛ وما ذاك إلا مثال بسيط جدا على ما ستحمله من آثار أشد فتكا بمقدرات ومكتسبات البلاد والعباد!
هل سيستقيم لنا أي أمر من نظام أو هيبة للدولة وأجهزتها بعد هذه السابقة إن تمّت وفق أهواء تجار الألبان أو غيرهم من التجار؟ أليس من المعيب جدا أن تصل هذه اللجنة التي تُتبع اسمها الأول بـ "الوطنية" أن تطالب بما يتنافى تماما مع مقتضيات تطبيق الوطنية فعلا قبل القول على أرض الواقع؟ أليس ما تقوم به وزارة التجارة والصناعة وغيرها من الأجهزة الحكومية والرقابية، هو صلب توجيهات خادم الحرمين الشريفين، وهو أيضا قوام تطلعات كل أفراد المجتمع؟ وأي منطق هذا الذي استندت إليه تلك اللجنة، وما تضمه من شركات الألبان للاستشهاد بالتجارب الدولية في خانة معينة، فيما تتجاهل عمدا اعتبارات أخرى تتعلق بأخلاقيات وسلوكيات يجب أن تتوافر لديها؟ ولو علمت أنها في الأصل عاجزة تماما عن الوفاء ولو بـ 1.0 في المائة من تلك الأخلاقيات والسلوكيات الرفيعة، لما استشهدت بتلك التجارب، واستقطاعها بهذه الصورة الفجّة والغريبة!
ختاما؛ يجب ألا تهتز ثقة وزارة التجارة والصناعة وبقية الأجهزة المعنية بحماية أسواقنا ومجتمعنا من أية سلوكيات تجارية أو صناعية مخالفة، ولتتأكد تماما أنّه مع ارتفاع مقاومة ومحاربة أي أطراف متورطة في أي من تلك الممارسات، فإنه لا يعني سوى أمر واحد؛ هو أنّ عليها المضي بخطى أكثر قوة وحزما وصرامة، فالحق هنا أحق أن يُتبع ولا مجال أبدا لأي طرف مهما كان وزنه أن يتملص أو يتهرب من الالتزام التام بضوابطه وأنظمته، ولا أن يتهرب أيضا من تحمّل جريرة تورّطه في ارتكاب مخالفة تلك الأنظمة. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي