هانس كوكلر .. شيخ القانون الدولي وتاريخ مشرف ضد تهويد القدس
قلة قليلة في عالمنا العربي من تعرف "هانس كوكلر"Hans Kockler، الذي ارتبط اسمه لديهم بأطوار المحاكمة في قضية لوكربي؛ حيث كان منسق لجنة المختصين القانونيين، وبعدها ملاحظا أمميا في ذات المحاكمة. وثلة من هذه القلة من تعرف أن هذا الرجل أحد عقلاء الغرب، ينضاف إلى أسماء أخرى من قبيل تشومسكي، آن ماري شميل، تودنهوفر...، ممن ينتصرون دائما لقضايا العرب والمسلمين والمستضعفين من دول العالم الثالث. وصوت الضمير الإنساني في المحافل الدولية المستهجن على الدوام لإرادة الهيمنة، وغطرسة سياسات القوى الكبرى في العالم.
توالي تلك المواقف والمحطات تجعل الرجل دائم الحضور في الساحة الثقافية العربية والاسلامية، وهو الحاضر فيها منذ ما يقرب من نصف قرن، ليس فقط بفضل كتاباته المهمة، بل أيضا بمواقفه الإيجابية الواضحة تجاه القضايا العربية المشروعة، وبالخصوص القضية الفلسطينية، واقتناعه الراسخ بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ونداءه المستمر في المحافل الدولية بعدم ترك مسلسل تهويد القدس يستمر، لأنها تعتبر في نظره العاصمة الحقيقية للدولة الفلسطينية.
هو ذا هانس كوكلر خريج قسم الفلسفة في جامعة سالسبورج سنة 1972، ومؤسس الجمعية النمســــاوية للفينومينولــــوجـيا ورئيس المنظمة العالمية للتقدم. واحد ممن أسهمت الجرعة القوية من التاريخ النمساوي المعاصر التي تلقاها بحكم موطن الولادة والنشأة - رغم أن البعض يصر على أن الانتماء القومي لا يمنح أي امتياز ابستمولوجي- لكن معرفة بعض معطيات التاريخ النمساوي المعاصر تكشف أثرها في منح الرجل نصيبا من المناعة النقدية التي تحميه من الاستسلام لإغراءات المال والمنصب والوجاهة الدولية.
تعددت جبهات اشتغال الرجل الذي أثرى الخزانة العالمية بمئات من الأوراق العلمية، في مجالات معرفية تكاد تكون متباعدة في نظر الباحث العادي، غير أن كوكلر ما انفك يجد لها أواصر تجسرها حتى يكاد القارئ لها لا يدرك لحظة الانتقال من مجال معرفي لآخر. من هذه الأبحاث ما نشر في كتب من أبرزها "الشك ونقد المجتمع في فكر هايديجر" و"تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين" وقبله "العدالة الجنائية الدولية في مفترق الطرق"... حتى صار من المختصين الدوليين المعدودين على رؤوس الأصابع المتخصصين في فلسفة القانون والفلسفة الأنتثروبولوجية، كيف لا وهو الملقب بالشيخ الكبير للقانون الدولي.
#2#
من الموضوعات التي شغلت بال كوكلر عقودا من الزمن فحصا وتحليلا نزعة "المركزية الأوروبية" ونتائجها الكارثية على مشاريع الحوار بين الشعوب. وقد أدى به الأمر إلى اتخاذ مواقف فكرية وإنسانية نبيلة تجاه الشعوب المغلوبة على أمرها، أملتها عليه قناعاته الفلسفية، وإيمانه العميق بمبدأ العدل المتساوي بين الشعوب، كما نعهد ذلك عند كبار الفلاسفة الإنسانيين على اختلاف ثقافاتهم وعروقهم وميولهم الدينية.
وتعتبر السياسات الغربية الورش الكبيرة لهذا المفكر الملتزم، الذي ركز اهتمامه الفلسفي على تقصي ابتعاد هذه السياسات أكثر وأكثر عن مبدأ العدالة، وبالتالي عن الأسس الحقيقية للديمقراطية. وتعتبر منظمة الأمم المتحدة في نظره أداة تزوير للديمقراطية، وبهذا أصبحت هذه المنظمة هدف تحليلاته من وجهة نظر الفلسفة السياسية والقانونية، مقترحا تصحيح مسار هذه المنظمة الأممية، لتصبح بحق مثالا للديمقراطية، وتتخلص من هيمنة القوى العظمى عليها، وتسخيرها كما يحلو لها بما يخدم مصالحها. ومنذرا في ذات الآن باتجاهها مستقبلا نحو مصير عصبة الأمم (1919-1946) سابقا.
لم يحل عنصر الانتماء إلى الحضارة الغربية والسياق المشترك لثقافاتهم دون انتصار هذا الفيلسوف إلى الموضوعية، وتجريح أساطين الفكر ورموز السياسة الغربية الحديثة. إذ انتقد وبشدة ما يصفه بالحديث في المثاليات، المستعمل من طرف السياسيين والمفكرين على حد سواء من أمثال كارل بوبر وفرانسيس فوكوياما...، الذي يَحُول في النهاية دون أي تأمل جيد في الأسس الأوليغاركية التي يقوم عليها فهم الغرب للديمقراطية، ويؤدي إلى تأكيد ذاتي خداع سابق لأوانه للنظام الذي خرج من صراع الحرب الباردة في المركز الأقوى. وبهذه الطريقة - يقول كوكلر - يزداد تعزيز "الخلل الفكري" المتأصل في أيديولوجية التمثيل النيابي الذي تقوم عليه الديمقراطية الغربية.
"الحق جزء لا يتجزأ والعدل يجب أن يصبح سلوكا تلقائيا في النظام والعلاقات الدولية والمساواة المدعومة بالحق والعدل هي الضمانة الوحيدة لكرامة البشر وحمايتهم من الظلم". مسلمة متوقد في ذهن كوكلر تجعله لا يتوانى عن كشف الأساطير المؤسس لسياسات الهيمنة الغربية على العالم، فروح التغيير التي تتذرع بها الشعارات المقتبسة من مفردات النظام العالمي الجديد – حسب كوكلر - مضللة أيما تضليل من حيث فهم بنية سياسة القوة. فما يفترض أنه "بداية جديدة" يستخدم أدوات سياسة القوة القديمة.
ولكننا، يقول الرجل، نجد أنفسنا مضطرين إلى طرح الأسئلة التالية: هل نحن مرغمون على قبول سياسة القوة في أثواب الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها النتيجة الحاسمة للصراع بين الشرق والغرب؟ وهل تكمن أيديولوجية القرن الحادي والعشرين – كما يقول فوكوياما – في تمجيد ليبرالية مقصرة أبعادها فكريا لا تعدو أن تطمس علاقات القوة والتبعية الحقيقية التي يخضع لها المواطن على الصعيدين الوطني والدولي؟
يجيب بأنه على المرء أن يكتفي في الوقت الراهن بمكافحة "الوعي الكاذب" وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية: فالجديد في التجمع (السياسي) العالمي بعد انتهاء الصراع بين الشرق والغرب هو بعث النظام القديم، المتمركز حول أوروبا في شكل ادعاء حق القوة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية؛ باعتبارها الدولة الرائدة في العالم على حساب العالم الثالث. ولا يسمح للفلسفة للأسف، بأن تقوم بدور أكثر من دور مساعد، هو دور "اللاهوت السياسي" الذي يضفي على التجمعات التي أوجدتها سياسة القوة شرعية أشبه بالدينية. كانت فاتورة الالتزام بالقضايا الإنسانية العالمية باهظة الثمن بالنسبة إلى هذا الرجل،
ومزدوجة الاتجاه؛ من جهة بني جلده، ومن جهة العرب الذين تذمروا كثيرا من أشباه الحلول التي اختاروها لقضاياهم، ورضاهم بفتات الكعك المتبقي في مدريد وأسلو، وتحالفهم السري والعلني مع قوى الاستعمار الجديد لهدم مناطق عربية بأكملها، والقضاء على بذور الحضارة العربية فيها ونسف الثقافة العربية الإسلامية.