لماذا رفع «الفيدرالي الأمريكي» أسعار الفائدة؟
وأخيرا اتخذ القرار الذي ترقبته الأسواق والمؤسسات المالية والبنوك المركزية شهورا طويلة، فقد عزمت جانيت يلين رئيسة "الفيدرالي الأمريكي" أمرها، وأعلنت زيادة سعر الفائدة للمرة الأولى في نحو عشر سنوات، وألمحت إلى مزيد من الزيادات في 2016.
صحيح أن نسبة الزيادة لا تعد كبيرة "ربع نقطة لتصبح ما بين 0.25 و0.50 في المائة"، لكن أهمية القرار وتاريخيته تأتي من كونه الأول منذ عشرة أعوام لم يرفع فيها "الفيدرالي" أسعار الفائدة، وكان ترقب الأسواق لصدور القرار كفيلا بألا يكون العنوان الرئيسي لوسائل الإعلام في العالم فحسب، إنما استتبعته موجات من ردات الفعل في عديد من المجالات الاقتصادية.
لكن قبل التطرق إلى تفاصيل ما حدث وتداعياته، فإن ما يجب طرحه أولا سؤال بسيط وجوهري، لماذا يعد رفع الفائدة الأمريكي أمرا بهذه الأهمية؟ ما الذي يدفع قنوات محلية ووسائل إعلام وطنية إلى أن تجعل من هذا الخبر "العنوان الرئيسي لها"؟ ولماذا يجلس مزارع في مزرعة نائية في ولاية البنغال الهندية أمام شاشة التلفاز ليتابع تفاصيل الخبر، في الوقت الذي يهتم فيه أغنى أغنياء العالم بقرار "الفيدرالي الأمريكي"؟ ما القاسم المشترك الذي يجعل فلاحا هنديا معدما ومليارديرا يتابعان ذات الخبر؟
الأمر باختصار أن رفع الفائدة الأمريكية سينعكس على الطرفين، وسيؤثر في حياتهما المادية، بالطبع لن يكون ذات التأثير، لكن المؤكد أن أوضاعهما المالية قبل رفع الفائدة وبعدها لن تكون كما هي.
فالدولار سيد العملات، وسواء شئت أم لم تشأ، وسواء كنت فلاحا فقيرا أو رجل أعمال ثريا فالعملة الأمريكية تلعب دورا مهما في حياتك اليومية، وسواء كنت تنفقه بشكل مباشر، أو تستهلك سلعا تدفع ثمنها بالعملة المحلية، لكنه تم استيرادها من الخارج ودفع ثمنها بالدولار، فإنك لن تستطيع الفكاك من براثن العملة الأمريكية وتأثيرها في حياتك.
وإذا دخلنا في أعماق المشهد الاقتصادي، فسنجد أن أهمية قرار "الفيدرالي الأمريكي" تكمن في أنه بداية النهاية لعصر النقود الرخيصة، وبالطبع لم تكن النقود في أي وقت من الأوقات رخيصة على الأقل بالنسبة إلى مليارات البشر، لكن المصطلح يستخدم جوازا للتعبير عن إمكانية الاقتراض من المصارف بسعر فائدة زهيد، والاقتراض من المصرف بسعر فائدة زهيد يعني أنه بإمكانك شراء سيارة أو منزل أو تمويل مشروع بتكلفة أقل.
كان هذا هو الحال على مدار الأعوام العشرة الماضية تقريبا، وبالطبع يفترض أن نكون جميعا سعداء، فسعر الفائدة لدى البنك المركزي الأمريكي يقارب الصفر، ومن ثم يقرض المصارف التجارية بسعر فائدة منخفض جدا، وبدورها تقرض المصارف التجارية الشركات ورجال الأعمال والدول أيضا قروضاً بسعر فائدة منخفض، ويصبح في إمكان الشركات المقترضة توظيف مزيد من القوى العاملة، والتوسع الاقتصادي، وتحقيق مزيد من الأرباح.
لكن قرار جانيت يلين يعني أنها أطلقت صيحة تحذير أولية، بأنه لم يعد في قدرة "الفيدرالي الأمريكي" المضي قدما في هذا الإجراء، فمعدلات نمو الاقتصاد الأمريكي آخذة في الارتفاع، ومعدل البطالة آخذ في الانخفاض، والشركات تربح، ومزيد من السيارات والمنازل يباع، وعدد الرحلات السياحية في الداخل أو الخارج في تزايد، إذاً وباختصار وبالتعبير الدارج "الناس معها فلوس"، ومن ثم رأت جنيت وكل فريق المصوتين على القرار، أنه قد آن الأوان "للفيدرالي" أن يحصل أيضا على جزء من الكعكة، وأن يشارك الآخرين في هذا النجاح الاقتصادي، وحصة "الفيدرالي الأمريكي" سينالها برفع أسعار الفائدة.
لكن مع ذلك، فإن القرار الأمريكي لم يلق ترحيبا من الجميع، فالبروفيسور جرهام ليتل الاستشاري السابق في بنك إنجلترا يقول "إنه بلغة الأرقام يبدو القرار منطقيا، لأن معدل البطالة في الولايات المتحدة تراجع إلى 5 في المائة وذلك أدنى مستوى له منذ سبعة أعوام ونصف، ومعدل النمو السنوي بلغ 2.1 في المائة، وهو معدل مقبول وإن كان أقرب إلى الضعف منه إلى القوى".
وأشار ليتل لـ "الاقتصادية"، إلى أنه يتعين علينا أن نتذكر أن سعر الفائدة بالزيادة أو النقصان إجراء يدخل ضمن إجراءات الطوارئ الاقتصادية لإنقاذ الوضع أو توجيهه، وخلال الفترة من أيلول (سبتمبر) 2007 حتى كانون الأول (ديسمبر) 2008 تراجع سعر الفائدة الأمريكي من 5.25 في المائة إلى صفر ثم ارتفع الى 0.25 في المائة، لكن القرار اتخذ والاقتصاد الأمريكي لم يتوازن بعد بشكل كاف، ورغم انخفاض البطالة فإن أغلب عقود التشغيل "مؤقتة"، ومعدل النمو في عديد من الولايات منخفض.
#2#
وأعرب ليتل عن مخاوفه مشككاً في أن تكون الشركات الأمريكية أو الأسواق الناشئة التي اقترضت بالدولار قادرة على سداد ما عليها من ديون الآن، خاصة شركات النفط الصخري الأمريكية، فهي الآن باتت محاصرة بين انخفاض أسعار النفط من جانب، ورفع الفائدة من جانب آخر، "ولهذا أتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة خروج أعداد كبيرة من تلك الشركات من سوق النفط".
ومع هذا، يدافع أنصار جنيت عن القرار، فرفع الفائدة سيكون وسيلة فعالة لردع عملية الاقتراض من أجل الاستهلاك، وسيؤدي إلى القضاء على ظاهرة "الفقاعة العقارية" التي بدأت تظهر في السوق الأمريكية، ويسعى أنصار رئيسة "الفيدرالي" إلى تهدئة مخاوف المستهلكين خاصة أن القرار اتخذ في ذروة فترة البيع في الأسواق الأمريكية والغربية، نتيجة قرب الأعياد والعام الجديد، معتبرين أن نسبة 0.25 في المائة زيادة محدودة.
وأوضحت لـ "الاقتصادية"، الدكتورة روز جونسون أستاذة الاقتصاد الدولي، أن معظم الأسر الأمريكية الآن أقل مديونية مما كانت عليه خلال الأزمة الاقتصادية، وأصحاب العقارات أكثر قدرة على التعامل مع الرهن العقاري، "ولهذا لا أعتقد أن قرار "الفيدرالي الأمريكي" سيؤثر سلبا في الاقتصاد الأمريكي، وأعتقد أن خطورة القرار تتمثل في انعكاساته السلبية على الأسواق الناشئة، وما سيخلقه من معادلات جديدة في سوق العملات".
من جهته، يقول لـ "الاقتصادية"، روبرت كوبرن كبير استراتيجي الأسواق في بنك "نت ويست"، "إن الأسواق الناشئة تعد المتضرر الرئيسي من قرار الفيدرالي الأمريكي"، مضيفاً أن "النتيجة الحتمية للقرار ستترجم في ارتفاع قيمة الدولار، وهذا سيؤثر في الأسواق الناشئة من زاويتين، الأولى ارتفاع الفائدة، فلربما يدفع المستثمرون في بلدان مثل تركيا وشيلي وإندونيسيا والصين وروسيا، إلى تصفية استثماراتهم والمغادرة للاستثمار في الدولار، عن طريق الإيداع في المصارف الأمريكية، لكن هذا يتطلب مراقبة الأسواق لأن معدل الزيادة في الفائدة لم يكن كبيرا، وقد يفقد كثير من المستثمرين في الأسواق الناشئة الحماس للمغادرة، لكن المؤكد أن الوضع الراهن لن يجذب كثيرا من المستثمرين للاستثمار في الأسواق الناشئة".
وأشار كوبرن إلى أمر ثان وهو أن أغلب الاقتصادات الناشئة سواء حكومات أو شركات خاصة جزء كبير من ديونها يقيم بالدولار، بينما عوائدها تحصل عليها بالأساس من السوق المحلية بالعملة الوطنية، وسيكون من الصعب عليها تسديد تلك الديون أو فوائدها. ويعتقد كوبرن أن المشكلة تزداد تعقيدا إذ إن رفع سعر الفائدة جاء في توقيت سيئ للاقتصادات الناشئة، فأسعار عديد من السلع الأولية أو الخام مثل النفط والمعادن والمنتجات الزراعية منخفضة، "ومن ثم أتوقع أن يواجه عديد من الاقتصادات الناشئة أزمة سيولة حادة في الفترة المقبلة، كما أن قدرته على الاقتراض من الخارج ستكون صعبة، ولربما الاستثناء الوحيد بعض البلدان النفطية التي لا تزال تتمتع بمعدل مرتفع من الثقة الائتمانية".
وربما تكون سوق العملات أول المتأثرة بقرار "الفيدرالي"، إذ عزز القرار من قيمة الدولار الآخذ في الارتفاع منذ أشهر، وتشير التقديرات إلى أن قيمة الدولار زادت بنحو 4 في المائة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عندما ألمح "الفيدرالي" إلى أنه سيتخذ قريبا قراره برفع الفائدة، لكن مواصلة الدولار الارتفاع أضحت مشكلة بالنسبة إلى كثير من الشركات الأمريكية، التي تعتمد على التصدير إلى الخارج، إذ تراجع معدل الربحية لديها نظرا لانخفاض الطلب على السلع الأمريكية لارتفاع أثمانها.
لكن عدداً من الاقتصاديين يحذرون مما يعتبرونه تداعيات يمكن أن يؤدي حدوثها على المستوى العالمي إلى تغير في المشهد الراهن، بما قد يدفع بـ "الفيدرالي الأمريكي" إلى إعادة النظر في قراره.
كيفين ريد الباحث الاقتصادي في معهد الدراسات الاقتصادية الدولية، يعتبر أن المؤتمر الصحفي الذي عقدته جانيت يلين في أعقاب رفع أسعار الفائدة، ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية التراجع عن القرار، إذا ما أدى إلى نتائج عكسية، وسط تطمينات من جانبها بأن عملية رفع سعر الفائدة لن تتخذ في كل اجتماع دوري "للفيدرالي".
وأشار ريد لـ "الاقتصادية"، إلى أن "الفيدرالي" سبق الآخرين بهذا القرار، خاصة بنك إنجلترا، "وعلينا أن نراقب خلال الفترة المقبلة ردود فعل البنوك المركزية الكبرى كبنك إنجلترا ودويتشه الألماني والمركزي الأوروبي والصيني والياباني، وعلى الرغم من أن بنك إنجلترا أعلن أن أول رفع للفائدة سيكون في الربع الثاني من العام المقبل، إلا أنه قد يجبر على تبكير الموعد إذا ترك قرار "الفيدرالي" تداعيات سلبية على الاقتصاد البريطاني كتراجع الاستثمارات الأجنبية".
وأضاف ريد أن "اليورو سيواجه وضعاً شديد الصعوبة خلال الفترة المقبلة لارتفاع الدولار، وربما يزداد وضع الاقتصاد الأوروبي ككل تعقيدا بدخوله مرحلة الركود، كما أن النفط سيواصل الانخفاض، وهذا المشهد الدولي المضطرب، لن يقف عند حدود الدول، إذ سينعكس بلا شك على سوق الأسهم".
ويبدو أن سوق الأسهم حتى الآن مرحبة بقرار رفع الفائدة الأمريكية، وأوضح لـ "الاقتصادية"، جيم ديلون المحلل المالي في بورصة لندن، أن رد الفعل الأولي كان إيجابيا والبورصات الأوروبية الرئيسية ارتفعت بين 1-3 في المائة، وربما يرجع ذلك إلى أن الزيادة التي أعلنها "الفيدرالي" كانت متواضعة، والأهم التعهد بأن تكون تدريجية، فأكثر ما يزعج الأسواق هو القرارات الجذرية المفاجئة، حيث يتطلب الأمر في هذه الحالة إجراءات سريعة لوقف الخسائر والتأقلم مع الأوضاع الجديدة، ولذلك سوق الأسهم كانت مستعدة منذ أشهر لهذه الزيادة، وتعاملت معها بشكل مريح.
الاستجابة الطيبة لم تكن في سوق الأسهم فقط فقد امتدت إلى سوق السندات الحكومية، فالسندات العشرية الأمريكية ارتفعت بشكل طفيف من 2.27 في المائة إلى 2.30 في المائة.
مع هذا، يدعو البروفيسور والتر كين أستاذ التحليل الاقتصادي إلى التريث لمعرفة التداعيات الحقيقية للقرار التاريخي لمجلس الاحتياط الأمريكي، مضيفاً لـ "الاقتصادية"، أن "استجابة الأسواق حتى الآن تبدو هادئة ورزينة لهذا القرار التاريخي، وربما يكون جراء الطابع المتواضع والتدريجي للزيادة، لكن حتى نمتلك صورة كاملة وموضوعية عن حقيقة المشهد، فلا بد من التريث بعض الوقت لمعرفة الكيفية التي ستتعامل بها الأجزاء المختلفة للاقتصاد على المستوى الدولي مع القرار".
وأشار كين إلى أن الأسواق الناشئة والبنوك المركزية إذا استوعبت الوضع، "فسنكون أمام بداية حقيقية للخروج من الأزمة الاقتصادية لعام 2008، أما إذا حدث العكس فلن يكون أمام جانيت وأنصارها غير الإسراع بخفض سعر الفائدة، وأخشى أن تكون محاولة متأخرة لإنقاذ الوضع".