طهران .. «الثورة البائسة» تسرق قوت أبنائها لتطعم حراسها

طهران .. «الثورة البائسة» تسرق قوت أبنائها لتطعم حراسها
طهران .. «الثورة البائسة» تسرق قوت أبنائها لتطعم حراسها

عُرفت باسم الثورة الإيرانية لعام 1979 أو "الثورة الخمينية" نسبة إلى الإمام الخميني، كما يحاول أنصاره في إيران تقديمها في التاريخ الإيراني المعاصر. سميت ثورة لأنها تمكنت من قلب نظام الحكم في إيران وحولته من ملكية تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي إلى نظام جمهورية إسلامية، وأطلق عليها وصف ثورة بالنظر السرعة والفُجاءة التي جاءت بها تطورات الأحداث - نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي-، التي شاركت فيه كل الأطياف والتلوينات السياسية (الدينية، الليبرالية، العلمانية، الماركسية، الشيوعية، ...) داخل المجتمع الإيراني.

###الثورة المسروقة

تاريخ ملحمي مشرق في بدايته؛ وتحديدا تلك الفترة الواقعة ما بين عامي 1977 و 1979، قبل أن تنقلب موازين القوى - منتصف عام 1979- في الخضم الثوري لصالح الإمام الخميني وأنصاره، الذين أحكموا قبضتهم على مجريات المسار الثوري العام في البلاد. كثير من المهتمين، العرب بالخصوص أنصار "تصدير الثورة"، لا ولم يُولوا هذه الانعطافة بالغ الأهمية في مسار تلك الأحداث، وحتى إن تم فمبررهم ذلك في نظرهم يعود إلى تزايد شعبية الخميني ومؤيديه داخل المجتمع الإيراني.

لكن حقائق الأمور ليس كذلك على الإطلاق، وقد جاءت التطورات الأخيرة في الخليج العربي مناسبة لنعيد الذاكرة قليلا إلى الوراء بغية النبش في مناطق مظلمة من تاريخ هذه الثورة المسروقة، لعل ذلك يساعد على إجلاء الحقيقة عن بعض أبعاد استراتيجية دولة مشروعها استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وعلى أساس طائفي، في زمن مُعولم أصبحت فيه الدولة الوطنية محط تساؤل كبير فما بالك بفكرة أو وهم الإمبراطورية المذهبية؟
عودا إلى أسباب رجحان كفة الإمام الخميني إبان الثورة للقول إن ذلك لم يكن بعلة كثرة الأنصار، ولا تعاطف الطبقات الشعبية، ولا غير ذلك، فالتيارات الكبرى (الدينية، الليبرالية، الشيوعية) في أوساط الكبرى الإيراني يكاد يكون وزنها متكافئا؛ في عز الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة موسكو والرأسمالي بزعامة واشنطن. نعم فانقلاب التسمية من "الثورة الإيرانية" إلى "ثورة الخميني" كان أساسا وبالدرجة الأولى بدعم من الولايات المتحدة، الذي جاء بعد مؤتمر غوادلوب (Guadeloupe) في عام 1979 بين قيادات أربع دول هي: أمريكا، بريطانيا، فرنسا وألمانيا، التي قررت دعم ومساندة الإمام الخميني، بعدما تعهد من جهته في الرسائل المتبادلة بينه وبين مندوب السفارة الأمريكية في باريس "بعدم قطع الإمدادات النفطية".

وقبل ذلك تولى الدكتور آية الله بهشتي إجراء مباحثات مباشرة (وثيقة التفاوض هذه لا تزال طي المجهول إلى اليوم) في طهران مع ويليام سوليفان (William H Sullivan) آخر سفير أمريكي في إيران. بينما كانت البداية بإرسال الجنرال الأمريكي روبرت هويزر (Robert E. Husyser) في يناير 1979 إلى طهران، لثني الحرس الإمبراطوري الإيراني عن القيام بانقلاب عسكري، وهو ما كشفه أخيرا المؤرخ أندرو سكوت كوبر (Andrew Scott cooper) في صحيفة الجارديان البريطانية بعد حصوله على وثائق من ضمنها برقيات دبلوماسية رفعت عنها السرية حديثا.

###الأيام الأخيرة

يتأكد كل ما سبق ذكره، ويُعضد بمعطيات وحقائق أخرى – صادمة أحيانا- في كتاب "مساعي الأيام الأخيرة" لمؤلفه إبراهيم يزدي (2007) الذي شغل منصب وزير الخارجية في الحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد الثورة، والزعيم الحالي لحزب "حركة الحرية إيران" (FMI) المعتقل منذ 28 دجنبر 2011 حاليا، وأحد قادة الحراك الثوري في تلك الفترة، حيث يؤكد في إحدى حواراته أن أول اتصال بين قيادة الثورة والولايات المتحدة قد تم بينه وبين فاليري جيسكار ديستان (Valéry Giscard d’Estaing).

هذه بعض الإضاءات على جوانب خفية من المسار الثوري والانعطافات الكبرى التي شهدها، من ثورة حالمة تواقة للحرية والديمقراطية للشعب الإيراني قاطبة إلى ثورة لرجال الدين رسموا فيها النظام الجمهوري على مقاسهم بمعية أنصارهم من الحرس الثوري؛ (دولة الحرس الثوري وإجهاض الثورة الخضراء 2009) الذي أضحى دولة داخل دولة، وحاميا لها منذ ذاك الحين وحتى الوقت الراهن، بل لا يتردد زعماؤه في تنفيذ مخططات النظام داخليا ضد كل الحركات المعارضة (زعماء سياسيون ترشحوا للانتخابات الرئاسية تحت الإقامة الجبرية أبرزهم مير حسين موساوي)، وأجنداته على المستوى الخارجي ذات الأهداف التوسعية في العالم العربي (البحرين، المغرب، الجزائر،...) والعمق الإفريقي (السودان، مالي، نيجيريا...) والآسيوي (باكستان، الهند..) معا، وهذا ما تولى السيد أبو داود تفصيله بالأدلة والوثائق في كتابه الصادر حديثا (2014) الموسوم بعنوان "تصاعد المد الإيراني في العالم العربي".
#2#
أما عن مصير البلد بعد "الثورة الإسلامية" لدى أنصار الخميني و"الثورة الموؤودة" لدى باقي القوى الديمقراطية في إيران؛ فالأحداث كانت مرعبة وتحول الأمر إلى ثورة تأكل أبناءها. فبعد الخلاص من تصفية رموز النظام السابق في حفلات إعدام جماعية، تُقيمها اللجان الثورية التي شكلت في جميع المحافظات، دون أن تتوافر على الحد الأدنى من شروط المحاكمة العادلة.
بعدها جاء الدور على الديمقراطيين في البلد بمنع وإغلاق عديد المنابر الإعلامية المعارضة لسياسة النظام الجديد، ثم جاءت الحلقة الثانية من مسلسل الإعدام، لكن هذه المرة على رفاق الدرب من الثوار ممن لم يُوافقوا على طبيعة الحكم وولاية الفقيه ونظام الملالي. وهكذا تتحدث منظمة العفو الدولية عن رقم 2946 حالة إعدام في حق ثوار الأمس.

###التصفية الجسدية

كان من أبزر الأسماء التي لحقها هذا الحكم: "صادق قطب زاده" الذي تم إعدامه لأنه عارض ولاية الفقيه، وكان أحد القيادات البارزة في فرنسا وشغل منصب وزير الخارجية في بداية الثورة وأبرز المؤسسين لحركة حركية غيران عام 1961 إلى جانب أسماء ثقيلة في الساحة الفكرية والسياسية الإيرانية منهم: مهدي برزكان، محمود طالقاني، يد الله سحابي، مصطفى جرمان، وعلي شريعتي... وآخرون.

وهكذا وجد الإيرانيون أنفسهم أمام واقع مرير عبر عنه الدكتور موسى الموسوي في كتابه "الثورة البائسة" (1983) أبلغ تعبير بقوله: "ارتكب المفسدون في الأرض القتل السياسي والتصفية الجسدية باسم "الواجب الديني"، وارتكب التعذيب بأبشع صورة باسم "التعزيز الشرعي"، وارتكبت السرقة ونهب الأموال باسم "حماية المستضعفين"، وارتكب خنق الحريات وخمد الأصوات في الحناجر باسم "مصالح الأمة"، وارتكب التجسس باسم حماية "مكاسب الإسلام"، وارتكبت الفوضى والشر وهتك الأعراض باسم "مكاسب الثورة الإسلامية"، وارتكب التعاون مع الأجانب كعملاء وحلفاء باسم "أصدقاء الثورة الإسلامية".

تلكم محطات من تاريخ ثورة لا تُقدم عن نفسها سوى الصورة الملونة الملهمة بعبق التحررية والسلمية.. في وقت ظلت فيه الصور السوداء الحالكة طي أرشيف الكتمان؛ منذ أول حكومة مؤقتة دُفعت كرها إلى تقديم استقالتها، لعدم مسايرتها لنظام بقرن وذيل وفق تعبير مهدي بازكران – أول رئيس حكومة بعد سقوط الشاه - في رسالته المنشورة في جريدة الزمان التي وجهها إلى الإمام الخميني وحاشيته، وهلم جرا لألبوم من الصور الموثقة لوقائع شهدها البلد تحت حكم نظام لا يزال يؤمن إيمانا مطلقا بمشروع "تصدير الثورة"؛ في وقت أسقطت فيه الأحداث الثورة بجبتها التقليدية في معاقل دول الثورات في القرن الماضي. لكن حقيقة هذا المشروع لا تعدو أن تكون محاولة لتحجيم المشاكل والاضطرابات الداخلية المتفاقمة، وتفريغها في شكل جبهات صراع خارجية هنا وهناك، ويظل على الرغم من ذلك التحدي - من وجهة نظري - داخليا بالأساس حيث سيعاني النظام من التحدي نفسه الذي مر منه من سبقه من الثوار الأمميين وعلى رأسهم الاتحاد السوفياتي.

الأكثر قراءة