ثقافة وفنون

عابد خازندار .. عوقب بـ «الفلكة» لضبطه متلبسا بقراءة «ماجدولين»

عابد خازندار .. عوقب بـ «الفلكة» لضبطه متلبسا بقراءة «ماجدولين»

عابد خازندار .. عوقب بـ «الفلكة» لضبطه متلبسا بقراءة «ماجدولين»

في مثل هذا اليوم من العام الماضي غادرنا الناقد والكاتب الكبير عابد خازندار - يرحمه الله -، هذا المثقف النبيل الذي ذاق مرارة السجن، وظل وطنيا حتى النخاع، لم يهزمه التهميش والتجاهل، وعاد من مهجره في باريس مساهما في الحركة الثقافية ناقدا ومترجما وناشرا لاتجاهات النقد الأدبي الحديث، ومعبرا في زوايته الشهيرة "نثار" عن هموم المواطن البسيط ومحاربا شرسا ضد البيروقراطية والفساد، واستمر مبدعا في الكتابة حتى بعد تجاوزه الثمانين عن قضايا البطالة والتعليم وحقوق الإنسان، غايته من ذلك المشاركة في عملية التنمية التي كان يعتبرها الخطوة الأولى على طريق التقدم والتنوير. قراءة كتاب "عابد خازندار مفكرا ومبدعا وكاتبا" لمؤلفه محمد القشعمي تساعد القارئ على اكتشاف الأسرار المدفونة في ثنايا نص رواية خازندار الوحيدة "الربع الخالي"، الرواية متواليات سردية أقرب في تكوينها وتتابع أحداثها إلى حكايات كتاب "ألف ليلة وليلة"، الذي تأثر به الكاتب عندما حصل عليه هدية من معلمته بمناسبة تخرجه من الكتاتيب في مكة مطلع الأربعينيات الميلادية. خازندار تحدث في كتابه "حديث المجنون" عن طفولته وصباه في حارة القشاشية في مكة مستشهدا بمقولة جوته "ما يحدث في صبانا، لا نفهمه إلا في شيخوختنا"، وانتقد بصراحة الأثر السلبي في استغلال التعليم في قولبة عقول الأطفال وتشكيل نظرتهم إلى العالم حسب قوانين المجتمع المفروضة عليهم قسرا، "ولدنا في ظل نواميس كونية طبيعية، وعشنا حياتنا تحت ظل عادات وأعراف غير طبيعية"، ولذلك يتطلع الأفراد المهمشون في المجتمعات إلى المعجزات أو البطل الخارق لتحقيق العدالة، حسب تفسيره ظاهرة القمع في المجتمع العربي الذي لم يتخلص من القبلية وفشل في بناء الدولة الحديثة والمجتمع المدني. خازندار سحره الكتاب منذ الصغر ولم تجذبه شروح المعلمين في الحصص المدرسية، لذلك كان يحضر معه قصص أرسين لوبين وروايات المنفلوطي لمطالعتها في المدرسة، ويذكر حادثة إمساك المعلم له في إحدى الحصص متلبسا بقراءة الرواية الغرامية "ماجدولين"، وتمت إحالته إلى المدير وتعنيفه على هذا السلوك الخطير في نظر مدير المدرسة الذي عاقبه بتقييد قدميه وجلده، ومكث بعدها ثلاثة أيام لا يستطيع المشي. خازندار درس الابتدائية في مدرسة الفلاح، والإعدادية في مدرسة الرحمانية، وانضم بعدها إلى مدرسة تحضير البعثات، وسافر إلى القاهرة عام 1952م مبتعثا ليدخل كلية الزراعة بسبب تأثير والدته عندما كان يراها كل صباح تعنى بزراعة الأزهار في أحواض صغيرة موجودة على سطح منزلهم، في البداية لم يلتفت إلى ذلك أو يهتم، ولكن حين خفق قلبه أول مرة لبنت الجيران، تنامى لديه الإحساس بالجمال، وبهره ذات يوم منظر الزهور واختلاف ألوانها وتمايلها مع نسيم الصباح الباكر، كانت تلك اللحظة ولادة ثانية - حسب تعبيره - جعلته لاحقا يفضل كلية الزراعة على دراسة الطب. خازندار لا يخفي إعجابه وتأثره الشديد بعبدالله عبدالجبار الذي كان مديرا للبعثات السعودية في القاهرة، واستمر إبن مكة الشغوف بالمعرفة في مطالعة الكتب والصحف في تلك المرحلة التي شهدت ظهور أدباء مصر الكبار في الشعر والرواية نتيجة مناخ الحرية أيام حكم حزب الوفد قبل ثورة الضباط الأحرار، وذكر خازندار في كتاب حديث المجنون أن نجيب محفوظ كتب ثلاثيته الرائعة قبل الثورة، وبعد قيامها كتب نجيب رواية "اللص والكلاب" بعد انقطاع ثماني سنوات، ولجأ إلى الترميز والاستعارة في رواية "الحرافيش" و"أيام حارتنا" في حكم عبدالناصر، وفي تلك الأيام أيضا اكتشف خازندار جماليات الشعر الجاهلي وما تمثله من إشعاعات الحرية والرفض والإباء والثورة والصراع بين الحياة والعدم. أسهم انتقاله من مكة إلى القاهرة ثم مغادرته إلى أمريكا في عام 1957م لدراسة الماجستير في تبلور شخصيته بعد تحولات فكرية ونفسية، ولعل هذا التراكم في التجارب والخبرات أثمر عن نضج في التفكير والممارسة عند عودته إلى الرياض منتصف عام 1961م، وعمله في وزارة الزراعة مديرا لدائرة المياه والثروة الحيوانية، وهو لم يكتفِ بالعمل المكتبي، إنما انطلق إلى تشجيع المزارعين وإمدادهم بمكائن لاستخراج مياه الآبار بدل السواني، وذهب ليعيش عاما كاملا في خيمة على ضفاف وادي السرحان في منطقة الجوف في شمال المملكة من أجل تعليم الأهالي طرق الزراعة الحديثة. في مقتطفات من سيرته سجل اعترافا عن رفضه الزيف والنفاق والخضوع للآخرين، وعن تجربة الحب الأولى أو كما يسميه لحظة الحياة الوحيدة التي تتحقق فيها الإرادة الحرة للإنسان الذي يفضل أن يكون مستقلا وحرا يغرد خارج السرب. ونجد ملامح خازندار وأفكاره حاضرة في نص "الربع الخالي"، البطل الذي يخرج من السجن بعد قضائه عامين ولم يرتكب جرما سوى اقتنائه كتب اليساري سلامة موسى، يبحث عن عمل حتى يتزوج حبيبته أمل التي وقفت إلى جانبه في ظروف قاهرة، وهنا يبدأ في سرد حكاية اعتقاله، ومقابلته السجين عامر الخماش، الذي يأخذ دور الرواي في لعبة سردية يحكي عن تخرجه من الجامعة وحصوله على منحة دراسية إلى أمريكا، ويتبادلان الحديث والذكريات، ويبوح السجين عن مغامراته العاطفية "وكل حب في الحقيقة مستحيل، والحب يفقد معناه ووجوده بمجرد التصريح به". #2# يمر الوقت في السجن بطيئا، يفقد السجين معنى الإحساس بالزمن، ويحسب السجناء حوله مجرد أشباح هائمة، سجين آخر يتذكر أيامه في القاهرة، وعن الفاتنة التي أهدته كتاب "البيان الشيوعي" من تأليف ماركس، وحوارات الشباب الصاخبة للتغير والثورة في شقة صغيرة في حي السيدة زينب. الرواي لا يعتمد على الوصف أو الحوار، ويتحول السرد إلى خطاب طويل عن أسباب الهزائم والتخلف العربي، مستدعيا قصيدة الشاعر الإنجليزي إيليوت "الأرض الخراب" في وصف الرجال السطحيين: مثل دمى مصنوعة من القش أصوات خافتة بدون معنى كالريح تسري في عشب جاف حولها الجرذان على هشيم الزجاج في القبو المظلم هيئات بلا أشكال وظلال بدون ألوان قوة مشلولة بدون حركة. وفي فصل "حكايتنا" تتوحد الشخصيات في صوت الرواي الذي يسرد ذكرياته في قاهرة الخمسينيات، ولقاءات مع شخصيات مؤثرة مثل عبدالله القصيمي ومحمود عودة وسلامة موسى وأحمد عباس صالح، ويفصح عن مبادئه التي لم تتغير حول جوهر العمل السياسي الذي يعني ببساطة النقاش وتدوال الرأي حول المجتمع والحياة العامة، وليس مصالح حزبية وأيدلوجيا قبيحة "أعترف أنني تأثرت كثيرا بالأفكار اليسارية، لكنني نفرت من الشيوعيين، إذ كانوا مثل "الإخوان المسلمين" انتهازيين، متشددين، إما أن تكون معهم أو تكون ضدهم، لا وسط عندهما ولا يقبلان بالاختلاف". في الفصل الأخير يدخل الضابط الزنزانة ويقطع حديث السجناء معلنا صدور العفو العام عن السجناء وإطلاق سراحهم، ويسافر بطل الرواية إلى القاهرة في السبعينيات، ويجدها تغيرت كثيرا بعد ثورة عبدالناصر، الذي أراد القضاء على الفقر، لكنه أقام بيروقراطية الدولة ونظام الاستخبارات. وينتهي المطاف بالبطل في مكة للزواج من أمل، وفاء بوعده لها، ويختم بقوله "لقد عانينا لكي يتاح لغيرنا أن يحقق ما عجزنا عن إنجازه، ولهذا فلن نموت على ضيم". الحكمة العميقة المستفادة من قراءة حكاية خازندار وسيرته أن عشق الحياة والجمال يقاوم الفكر الشمولي والتطرف، ولذلك كان يوصي أصدقاءه ومحبيه "علموا أبناءكم تذوق الجمال والإبداع".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون