«الفائدة السلبية» قد تعرّض العالم لأكبر كارثة اقتصادية
يبدو المشهد الاقتصادي الدولي اليوم في وضع درامي متشح بحالة من الذعر والقلق الشديدين، وفي الحقيقة فإن الاقتصاد العالمي انتابته تلك الحالة منذ آب (أغسطس) الماضي، عندما انهارت البورصة الصينية وتبعها خسائر في بورصات العالم كافة، لكن حجم وعمق الأزمة بلغ مداه خلال اليومين الماضيين.
وكانت جانيت يلين رئيسة المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، قد عقدت قبل أيام مؤتمرا صحافيا في واشنطن، أكدت خلاله أن الضغوط المالية الناجمة عن انخفاض أسعار الأسهم وعدم التيقن بشأن الصين وإعادة التقييم العالمية لمخاطر الائتمان قد تطيح بالاقتصاد الأمريكي خارج مساره الحالي القوي.
وعلى أثر ذلك، اجتاحت موجة من الذعر "وول ستريت"، فما أن ظهر الخبر العاجل على شاشات البلازما التي تغطي قاعات البورصة الأمريكية، إلا وباتت جميع مؤشرات الأسهم باللون الأحمر، وصدرت تعليمات عاجلة من قبل المستثمرين لوكلائهم بالتخلص ما لديهم من أسهم وبيعها سريعا، فيما جرت اتصالات هاتفية عاجلة بين رؤساء مجالس إدارات المصارف والشركات الدولية لعقد اجتماعات طارئة لمجالس الإدارات.
في المقابل، كان الوضع في البورصات الأوروبية والآسيوية أهدأ بطبيعة الحال، ففارق التوقيت كان يعني أن تلك البورصات قد أغلقت أبوابها قبل ساعات، إلا أنه وفي اليوم التالي وما أن دق جرس افتتاح بورصة اليابان وهونج كونج وشنجهاي، إلا وكان المشهد الأمريكي يتكرر في تلك البورصات بامتياز، فجميع المؤشرات باللون الأحمر، ودعوات بالبيع السريع قبل أن تشهد الأسهم مزيدا من التدهور السعري، ساعات وكانت بورصة لندن وألمانيا وفرنسا وإيطاليا تفتح أبوابها ويتكرر المشهد مجددا.
المشهد الاقتصادي الذي تجاوز حدود القلق إلى حدود اليقين بأن العالم مقبل على ركود اقتصادي عنيف، دفع بأسعار النفط الخام إلى التراجع لأدنى مستوى منذ 2003، حيث ارتفعت أسعار الخام لاحقا عندما صدرت تلميحات بشأن التعاون بين "أوبك" والمنتجين من خارجها.
وأغلقت البورصة اليابانية على خسائر تجاوزت 11 في المائة بقليل، وفي ظل هذا الهلع السائد اندفع المستثمرون إلى القنوات الاستثمارية المضمونة وأبرزها السندات الحكومية اليابانية منخفضة العائد، وبالتالي ارتفعت قيمة الين الياباني بنحو 10 في المائة في مواجهة الدولار، وبلغت قيمة العملة الأوروبية الموحدة أعلى مستوى له في الأشهر الأربعة الماضية في مواجهة نظيرتها الأمريكية، أما الذهب فقد بلغ سعر الأونصة 1262.90 دولار مرتفعا عن مستواه السعري 4 في المائة في يوم واحد في أعلى قفزة يحققها في يوم منذ أيلول (سبتمبر) 2013.
ووسط تلك المشاهد يصبح التساؤل الأبرز هل أخطأت يلين جانيت عندما أقدمت على رفع سعر الفائدة الأمريكي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي؟ أم أن المخطئ الحقيقي هو البنك المركزي الياباني عندما تبنى سياسة الفائدة السلبية أواخر الشهر المنصرم؟ أم أن المشكلة أكثر تعقيدا وإرباكا ولا يمكن تحميلها لعامل واحد مهما كانت أهميته؟.
ولمعرفة الدور الذي تلعبه أسعار الفائدة في ظل الأزمة الراهنة والتوجهات المستقبلية لها، توجهت "الاقتصادية" بالسؤال إلى ديفيد أسمان الرئيس السابق للجنة المالية لبنك إنجلترا، الذي اعتبر أن قرار يلين جانيت برفع أسعار الفائدة لم يكن قرار "صائبا" وأنه اتخذ في وقت لم يكن الاقتصاد الأمريكي قد استعاد "أنفاسه بالكامل" من أزمة 2008.
وأضاف أسمان المؤسسة المالية الأمريكية، وفي المقدمة منها مجلس الاحتياطي الفيدرالي تتبنى وجهت نظر أن الاقتصاد الأمريكي يحقق نجاحات، إلا أن أداء الشركاء الآخرين وتعني يلين بالطبع الصين والاتحاد الأوروبي أداء سلبي "وأقل دعما" للنمو الأمريكي، وحتى بتبني وجهة النظر تلك - رغم قناعتي بأن الاقتصاد الأمريكي به مؤشرات متضاربة تدل على نموه وتراجعه في الوقت ذاته-، فإن جنيت كان عليها التريث.
وأشار أسمان إلى أن المشكلة في اعتقادي ليس الخطأ الذي ارتكب برفع الفائدة بل بالكارثة التي قد يقدم عليها الفيدرالي الأمريكي إذا تبنى السياسة اليابانية بفرض الفائدة السلبية، وخلال شهادة يلين أمام الكونجرس لم تستبعد تبنى تلك السياسة، وسيقود ذلك الاقتصاد الأمريكي إلى خسارة القليل من النجاحات التي حققها في السنوات الأخيرة من جراء سياسة التيسير الكمي وزيادة الدين العام.
الدكتورة كاثرين وات الاستشارية الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي تتبنى وجهة النظر السابقة، وتعتقد أن التداعيات الاقتصادية لتبنى واشنطن سياسة فائدة سلبية سيكون تأثيره سلبيا في الأسواق الأمريكية والعالمية في آن واحد.
وأضافت لـ "الاقتصادية"، أن قرار رفع أسعار الفائدة اتخذ في كانون الأول (ديسمبر)، وإذا أقدم المركزي الأمريكي خلال هذا العام أو حتى العام المقبل على تبنى سياسة مغايرة تماما، وهي الفائدة السلبية فإن يبعث بذلك رسالة واحدة للأسواق، وهي أنه لا يعرف ماذا يفعل ولا توجد لديه رؤية أو استراتيجية لكيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية، وإنما يقوم بتبني سياسات متناقضة على أمل أن تنجح إحداها.
ولكن حتى مع فرضية أن الأسواق تفهمت الحاجة إلى تبني واشنطن لأسعار الفائدة سلبية، فهل يعني ذلك نجاح تلك السياسة اقتصاديا، والمنطق المحبذ لفرض هذه السياسة المالية يقوم على أساس أن تبنيها سيدفع المودعين والمصارف التجارية إلى عدم ادخار أموالهم، وإنما استخدامها في عمليات الشراء والبيع ما يسهم في إنعاش الحركة الاقتصادية ككل، إلا أن هذا المنطق يجد شكوكا عظيمة في ظل انخفاض معدل التضخم الأمريكي، وهو ما يعني أن الكثير من المدخرين لن يحبذوا القيام بعمليات شراء أو استثمار أموالهم في سوق الأسهم في ظل حالة الاضطراب السائدة فيه، ولربما يفضلون "اكتنازها" في منازلهم عن وضعها في قنوات استثمارية.
على الجانب الآخر من الصورة، فإن الشركات والمستثمرين ربما يحبذون سياسة الفائدة السلبية، إذ إنها شكل آخر من أشكال التيسير الكمي حيث يمكنهم الحصول على القروض بأسعار منخفضة للغاية.
ديفيد ماك ليرن الباحث الاقتصادي في المجموعة الدولية للاستثمار يستبعد أن يقدم الفيدرالي الأمريكي على تلك الخطوة في الوقت الراهن، وأن المتضرر الأكبر من سياسة الفائدة السلبية هم صغار المودعين والمصارف الصغيرة، وأعتقد أن المجلس الفيدرالي الأمريكي يصعب عليه الإقدام على تلك الخطوة في عام انتخابات الرئاسة الأمريكية.
ولكن ماذا عن وضع ومكانة الفائدة السلبية في الاقتصاد العالمي؟، تشير الأرقام المتاحة إلى أن خمس الناتج المحلي الإجمالي على المستوى العالمي يأتي حاليا من بلدان تطبق سياسة الفائدة السلبية، بما فيها اليابان والاتحاد الأوروبي والدنمارك وسويسرا والسويد، وأن عدد سكان تلك المجموعة من بلدان الفائدة السلبية يبلغ نحو 500 مليون نسمة، وربما يكون ذلك مؤشرا على اتساع نطاق هذه السياسات على المستوى العالمي، إلا أن هذا لا يعني في نطر كثير من المختصين نجاحها حتى الآن. يعتقد بيل كوتر المختص الاقتصادي أن سياسة الفائدة السلبية لم تحقق نجاحا اقتصاديا يذكر بينما تضرر منها صغار المودعين، مضيفا أن الغرض من تلك السياسة مساعدة الاقتصاد على النمو بتوفير قروض ميسرة وبأسعار فائدة منخفضة للمقترضين، من جانب آخر دفع المودعين إلى الاستثمار في سوق الأسهم والسندات تحديدا.
وأشار لـ "الاقتصادية"، إلى أن ذلك لم يتحقق في اليابان أو الاتحاد الأوروبي، كما أن الاستهلاك العام لم يرتفع، بل على العكس فإن معدلات الادخار في البلدان التي تفرض سياسة فائدة سلبية آخذ في الارتفاع، لأن تلك السياسة تخلق قناعة لدى المستهلكين، خاصة من أبناء الطبقة المتوسطة أن الوضع الاقتصادي سيئ، وأن الاقتصاد الوطني مقبل على فترة صعبة، وغالبا عندما تسود تلك القناعات يزيد الادخار كما ترافع أسعار الذهب نتيجة زيادة الطلب.
وأضاف كوتر، أن المشكلة الأخرى أن تلك السياسة تضر كثيرا بالمصارف الصغيرة، فعديد من المصارف الأوروبية، خاصة في ألمانيا لا تهدف إلى الربح بالأساس وإنما تقديم خدمات مالية لمجموعات سكانية صغيرة، وسياسة الفائدة السلبية تضع المزيد من الأعباء المالية على تلك المصارف، ما يدفعها للاندماج لكن هذا يعني أيضا خفض عدد العاملين وإغلاق الكثير من الفروع.
وتتصاعد المخاوف حاليا لدى الكثير من المصارف حول العالم من أن يؤدي تبني يلين للفائدة السلبية أن تصبح قاعدة عالمية، وهو ما قد يضر القطاع المصرفي على المستوى العالمي بشكل كبير، إذ خسرت أسهم المصارف الأوروبية منذ بداية العام وحتى الآن نحو 30 في المائة أما المصارف الأمريكية فإن أسهمها تراجعت بما يقارب 20 في المائة، و المصارف اليابانية بنحو 35 في المائة.