العالم

في محيط هائج يعج بالقراصنة .. الرياض تقود سفينة العرب

في محيط هائج يعج بالقراصنة .. الرياض تقود سفينة العرب

"تأثير العرب عظيم في الغرب، وهو في الشرق أشد وأقوى، ولم يتفق لأمة ما اتفق للعرب من النفوذ، والأمم التي كانت لها سيادة، كالآشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تترك لنا غير أطلال دراسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا لم تزل عناصر حضارتهم حية". شهادة قوية لله والتاريخ عن العرب بلسان أعجمي، فالقول ليس لعربي ولا لمسلم، بل للكاتب الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (la Civilisation des Arabes). لست في وارد مناقشة آراء ومواقف هذا الرجل من العرب وحضارتهم، وإنما أبتغي التذكير بما كان عليه العرب قبل أن يصيروا إلى ما هم فيه اليوم من أزمات خانقة، وقد أبلغ الأمير الراحل سعود الفيصل بتوصيفها في عبارة "الخواء الاستراتيجي العربي". فمستقبل العالم العربي الحالي أصبح يتقرر خارج حدوده، واللاعبون الكبار في الإقليم أصبحوا متعددين؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران وتركيا وكل واحد منهم يبحث عن نصيبه من "الغنيمة العربية". ولا ضير من التذكير بحقيقة نظرة هؤلاء إلى العالم العربي - ويا للأسف تنافى ما أقره لوبون في كتابه ما يفترض ردا لجزء من أفضال العرب على الغرب- فهم يرون هذه الرقعة الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج مصدرا لا ينضب وخزانا للموارد، التي تحرك الاقتصاد المعاصر، وتتحكم في أقوى البورصات المنتشرة في الأركان الأربعة للعالم. الحديث عن الموارد لا يحصر هنا في المواد الطاقية والنفطية على أهميتها، وإنما تضاف إليه الموارد المائية وقبلها الموارد والثروات البشرية، فتقارير الأمم المتحدة الصادرة أخيرا تشير إلى أن أعلى معدلات الخصوبة والتكاثر الطبيعي من نصيب بعض الدول داخل الرقعة الجغرافية العربية. في مسألة غنى الموارد البشرية مثلا نشير إلى أن العالم العربي، يشهد نسبا قياسية في هجرة الأدمغة إلى بقية العالم، الذي يستوعب هذه الطاقات البشرية الجاهزةـ ويستغلها لخدمته بعدما صرفت الأموال كثيرا لأجل تكوينها في العالم العربي. وغير بعيد، دعونا ننظر إلى أزمة اللاجئين السوريين وقبلها المهاجرون من العرب من شمال إفريقيا التي قضت "ظاهريا" مضجع القارة العجوز في السنوات الأخيرة. وإن كان واقع الأمر- في قرارات أنفس الأوروبيين- غير ذلك تماما فهذا حل لمأزق، ومنَّة جادت بها السماء عليهم لمواجهة مشكلة شيخوخة الهرم السكاني؛ فدولة مثل ألمانيا على وشك التراجع في إجمالي عدد سكانها سنة بعد أخرى بفعل قلة الولادات مقارنة بالوفيات المرتفعة جراء الشيخوخة السكانية. وقس على ذلك بالنسبة لبقية الثروات العربية؛ فائض في الموارد الطبيعية، فائض في الموارد البشرية، فائض في الموقع الجغرافي، ما لا سبيل لمواجهته من وجهة نظر الغرب إلا من خلال الزج بالإقليم العربي في دوامة صراع ممتدة، أو بتعبير أدق "استراتيجية الاستنزاف" قوامها إشعال فتيل الحروب الداخلية والنزاعات الإقليمية، وإبقاء المنطقة مصهرة دموية ومذبحة مفتوحة لا غالب فيها ولا مغلوب. مخطط تكشفت معالمه بجلاء، عقب تسامح دركي العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) لقوى غير حليفة لها، بل لا تتردد في وصفها بالمعادية لها ولقيمها؛ والقصد هنا تحديدا إيران وروسيا، بلعب أدوار في المنطقة العربية دون أدنى حراك منها سوى إدانة واستهجان محتشمين من حين لآخر. ما دامت أوراق اللعب هذه وتحركات تلك القوى تصب في مجرى إطالة أمد حرب الاستنزاف، والحيلولة دون بروز دولة عربية قائدة للمنطقة تنهض بزمام تغيير معادلة المشهد العربي، وفرض موازين قوى جديدة على هؤلاء اللاعبين الكبار. "يا معشر الكتاب صارت المؤامرة مشجبا تعلقون عليه كل رزايا العرب" يقول قارئ معتبرا ما مضى من أسطر قراءة سطحية مُنفعلة بما يجري ومتفاعِلة معه، فأجيب أن الأمر على النقيض من ذلك تماما، فالداعي لكم بالخير لا تستهويه كثيرا نظريات المؤامرة والقوى الخفية.. وما إلى ذلك مما يجعل المؤمنين بها قادرين على نسبة الخلل للنظام الكوني بدل الاعتراف بقصور وتهافت أطاريحهم. لكن دعونا نعود لترتيب بعض التفاصيل في المشهد العربي، كي تتضح معالم حرب الاستنزاف القائمة حاليا، والممهدة زمنيا سعيا لصناعة خريطة جديدة للمنطقة العربية. وذلك لإزالة الريبة والشك في نفوس من يكثرون من جلد الذات العربية أكثر من اللازم، ويرون أن ما يجري بما كسبت أيدي العرب، ولا دخل لآخرين فيه بقليل أو كثير. - حرب الاستنزاف: لماذا تستهدف العمليات الإرهابية الدول التي تدعم المعارضة السورية، وتطالب برحيل مجرم وطاغية العصر بشار الأسد، وتعمل جاهدة من أجل وضع حد للمأساة الإنسانية وإيقاف النزيف السوري الذي عليه الأمد. ونقصد تحديدا السعودية بمعية كل من تركيا وفرنسا. كل ذلك بدافع إرغام هذه البلدان على مراجعة مواقف سياستها الخارجية، ما يجري في سورية، والعودة إلى المربع الأول للاستنزاف، وإبقاء المستنقع السوري على حاله ومعه المنطقة برمتها إلى أجل غير مسمى فيما يشبه برميل بارود قابلا للانفجار في أي لحظة. - مخطط التقسيم: لماذا تعمل قوى إقليمية (إيران بمساعدة وكلائها المحليين) على تطيِيف– نسبة إلى الطائفة- الحراك في الإقليم العربي (العراق، اليمن، وسورية..) دون أي موقف من القوى الدولية التي قدمت كل أنواع الدعم أملا في منع أي انفصال السنة الماضية في أوكرنيا. علة ذلك أن الأمر يصب في صالح صناعة خريطة جديدة للمجال العربي بعد مضي قرن على سايكس بيكو التي لم تعد صالحة، من مدخل طائفي هذه المرة، يستند إلى معادلة جديدة أساسها سنة/ شيعة، تعمل إيران على فرضها على أرض الواقع، وبذلك تصير السنة طائفة وأقلية، وهذا لم يحدث مطلقا عبر التاريخ. - إدامة الفراغ: لماذا تتكاتف جهود القوى الدولية (أمريكا، إيران، وروسيا...) لعرقلة أي محاولة لملء الفراغ في كرسي القيادة العربية. ينتصر ويناصر إرادة الشعوب بالمنطقة ويحرص على وحدة الموقف العربي، ويدعم طموحاتها نحو الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. لما في ذلك من تهديد لمصالح تلك القوى في المنطقة العربية من ناحية، وفرصة لبروز السعودية دولة قائدة للبلدان العربية (وهو ما بدأته فعليا مع عاصفة الحزم). لا أحد من اللاعبين في الأقليم من مصلحته استقرار المنطقة ـ لما سيلي ذلك من تبعات غير مقدور عليها من جانبهم في كل الجوانب، فاستغلال تلك الفوائض المتعددة والثروات المتنوعة يفضي إلى استقلال عربي على أكثر من صعيد، ما يمهد لوحدة في الصف والموقف العربي للدفاع عن طموحات ومصالح المنطقة قادة وشعوبا. حلم ترى هذه القوى أنه لا ينبغي له أن يتحقق، لذا جاءت حرب الاستنزاف التي لم تعد خافية لأحد، خصوصا مع تخلي القاهرة وقبلها سقوط بغداد من معادلة صناعة القرار والموقف العربي، وعودة الرياض في (عاصفة الحزم/ التحالف الإسلامي...) لموقع قيادة السفينة العربية في بحر لُجي هائج يعج بالقراصنة، ممن يطمحون لحصة أو نصيب منها، لا بل منهم من يمني النفس بتولي موقع قيادة السفينة (إيران).
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم