المراجعة الداخلية .. جامعة المجمعة نموذجا
تشرفت قبل مدة بإلقاء محاضرة تعريفية بنشاط المراجعة الداخلية في جامعة المجمعة. وللحقيقة لم أكن أتوقع أن الجامعة قد خطت كل هذه الخطوات المتقدمة في أعمال ومهام المراجعة الداخلية. ولعل هذا الانطباع المسبق قد جاء من أن فهمها عن أهمية المراجعة الداخلية اليوم لم يزل دون المستوى المطلوب هذا فضلا عن تفعيلها ذلك أنها من المفاهيم الحديثة في العمل الإداري في المملكة وقد لا يعي الكثير من المجتمع معناها ولا حجم تأثيرها وذلك بمختلف مستوياتهم. ولا ألوم أحدا في ذلك فمفاهيم الإدارة والرقابة والمحاسبة بشكل عام لا تدرس في مناهج التعليم العام ولا يلتفت إليها كقضية علمية محورية في بناء التفكير لدى الأجيال، وبينما يدرس الطلاب قضايا معقدة في الفيزياء والكيمياء وفي تركيب الأحياء الدقيقة قد لا يحتاج إليها الطالب نهائيا وحتى ما تبقى من عمره، بينما لا يعرف كيف ينظم وقته ولا عمله ولا كيف يتخذ قرارا أو يفتح حسابا في بنك ولا يتعلم شيئا أبدا في الاستثمار والسوق المالية ولا حتى كيف يحسب تكلفة تمويل. حتى إذا تخرج في الجامعة بدأ يتخذ قرارات اعتباطية وبعد أن يتخبط في حياته (وقد يتخبط في إدارة مؤسسات الدولة) يعرف أنه في حاجة إلى دورات في الإدارة والمحاسبة والرقابة. لا نلوم إذا كان عدد كبير من المسؤولين في الوزارات والجامعات لم يتم تدريبهم على قضايا الإدارة العليا وأدواتها الضرورية، التي من بينها المراجعة الداخلية.
عندما قبلت دعوة إدارة المراجعة الداخلية في جامعة المجمعة كان في رأسي كل هذه التصورات وكنت أبني المحاضرة والنقاشات حول القواعد الأساسية للرقابة ودور المراجعة الداخلية في خدمة الجميع، كنت أتصورها جامعة ناشئة وإدارة منشغلة في ترتيب بيتها وهيكل العمل الداخلي وتصورت أنني سأكون ضيفا ثقيلا يتحدث عن موضوع فني معقد والجامعة وموظفوها منشغلون بما يعتقدون أنه الأهم، لكن جامعة المجمعة خيبت ظني فقد كانت أفضل من ذلك بكثير، فالجامعة خطت خطوات واسعة جدا في تطوير إدارة المراجعة الداخلية وبشكل لافت جدا قياسا بغيرها، ووفرت طاقما من المهنيين المتخصصين وهي تعمل بنضج واضح في هذا المجال، ولهذا كله فقد كان الحماس باديا للجلوس على طاولة لمناقشة قضية المراجعة الداخلية ودورها في خدمة الجميع، وكان النقاش متقدما ليس كما أعددت له، بل كانت الأسئلة في بعض الأوقات دقيقة وتفصيلية، ما يدل على وعي شامل بالقضية وأبعادها في الجامعة.
من المهم القول إن العمل الجيد في جامعة المجمعة لم يكن في المراجعة الداخلية فقط، بل إن التطور في هذا الجانب جاء استنادا إلى ما أنجزته الجامعة من أعمال وإجراءات في العمل الإداري اليومي والهياكل الإدارية الواضحة المهام والمعلنة في موقعها الإلكتروني ومن ثم لم يكن لدى إدارات الجامعة ما تخفيه أو تقلق منه ولهذا أيضا فإن المراجعة الداخلية لم تكن مستنكرة في بيئة أعمال بهذا الوضوح والشفافية. هذه هي الحقيقة التي يتهرب منها الكثير من الجهات، العمل الهيكلي والإجرائي الواضح والدقيق في العمل هو الذي يضع المراجعة الداخلية في مسارها، ومن الصعب جدا تطبيق المراجعة الداخلية في بيئة أعمال تنقصها كل التفاصيل الإجرائية ويضيع القرار بين مئات الممرات والسراديب داخل المؤسسة الحكومية. في بيئة فوضوية كهذه فإن المراجعة الداخلية تأتي مستنكرة وغير مرغوبة تماما. وفي البيئات المضطربة، التي تتسم بعدم وضوح الإجراءات ودهاليز القرار فإن على المراجع الداخلي قبل البدء في أعماله أن يطلب ضبط وتثبت واعتماد الإجراءات وتطوير نظام الرقابة الداخلية وتحديد مقاييس الأداء ولهذا تبدأ الأسئلة المستنكرة لهذه الطلبات وعن التشابه بين أعمال المراجعة الداخلية وضبط الجودة والمتابعة وأعمال ديوان المراقبة العامة، وللحقيقة فإن مهنة المراجعة الداخلية هي مهنة للتأكيد ومهنة لمنح الثقة ليست لبناء مقاييس أو متابعة موظف غائب أو مساءلة مالية عن عقد حكومي، لكن لضياع الإجراءات في المؤسسات المضطربة فإن المراجع يضطر تحت وطأة رغبة المسؤول الأعلى في إطلاق أعمال المراجعة إلى أن يطلب مثل هذه الإجراءات الضابطة وهنا يلتبس الأمر على الموظفين والإدارات. لكن في المؤسسات المنضبطة فإن مثل هذه الأسئلة تختفي ويتفهم الجميع دور المراجع الداخلي وتتجه الأسئلة نحو أمور أكثر تعقيدا مثل الاستشارات التي يقدمها المراجع الداخلي والاستعانة بخدماته، وتقاريره والملاحظات والتصحيح ودور المراجع فيه.
بعد أن قدمت محاضرتي في جامعة المجمعة وأمام كبار موظفي الجامعة وعلى رأسهم وكلاء الجامعة تبين لي لماذا تنجح بعض الجهات في تطبيق المراجعة الداخلية ولماذا يفشل بعضها الآخر، الجدية في العمل الإداري وضبط الإجراءات وأن يعرف كل مسؤول ما له وما عليه وألا يتداخل العمل أو يضيع القرار في متاهة من اللجان المختلفة غير ضرورية في كثير من الأحيان. هذا ما جعل جامعات مثل جامعة الملك فهد وجامعة المجمعة تنجح في بناء مؤسسة المراجعة الداخلية فيها، بينما تقف كثير من الوزارات المعنية بهذا الشأن وحتى مؤسسات عامة تعمل اليوم على أن تصبح من القطاع الخاص تفشل في بناء مكتب صغير للمراجعة الداخلية وبشكل مثير للاستغراب. لكن وباختصار إذا غابت المراجعة الداخلية ففتش عن متاهات العمل الإداري واللجان وغياب الإجراءات.