الرسوم .. ليست العصا السحرية

مع كل مأزق تنموي أو تمويلي، تتجه أنظار التكنوقراط إلى فرض مزيد من الرسوم لمعالجة ما يواجهون من متاعب يومية، يواجهها كل من يتسنم العمل الحكومي في كل أنحاء العالم. ولكن في أغلب نواحي العالم لا يهرعون إلى فرض مزيد من الأعباء المالية إلا بعد استنفاد الحلول الممكنة، ثم قد ـــ قد ـــ ينتهون إلى مناسبة فرض رسوم مع حزمة متنوعة من الحلول لمعالجة مشاكلهم. بمعنى آخر، فرض الرسوم ليس أول الحلول بل آخرها، وليس كل الحل بل جزء منه. يبدو لي أن المعادلة معكوسة لدينا.
أزمة الإسكان، كان المتوقع أن نبادر للمعالجة استرشادا بالممارسات العالمية، وبما يتواءم مع بيئتنا المحلية، وأن نقوم ـــ على سبيل المثال ـــ بتحرير مزيد من الأراضي الحكومية، وتسريع وتيرة الموافقات البلدية، ضخ مزيد من القروض الحكومية لتطوير الأراضي وتملكها، زيادة تحفيز الاستقرار في القرى والمدن المتاخمة للمدن الرئيسة، تقديم حزمة قروض، قرض للسكن وآخر لبدء حياة مهنية، وثالث لمصنع ورابع لمستشفى في القرى والمدن الصغيرة. بدلا من هذا، سلطت الأعين وضخت كمية جهد غير مسبوقة لفرض الرسوم على أنها الوصفة السحرية لمعالجة غلاء الأسعار. مع اقتراب الدقائق الأخيرة، ووضوح الرؤية المعقدة والمفاجئة يبدو أن هناك تحولا في العقائد القديمة وقبولا مبدئيا لفكرة "حزمة" الحلول، وأولويات المعالجة. عموما الموضوع أشبع نقاشا، ورمضان ليس بعيدا. والفكرة هنا ليست لمناقشة أثر الرسوم بقدر مناقشة "سحرية الرسوم الزائفة". معالجة المشكلة لا تتشكل بمجرد فرض رسم، بل لا بد من جهد وتكلفة.
أزمة البطالة، كان التصور بالمثل أن نتعلم من معالجات القرون السابقة والمعاصرة، وأن نهرع إلى إزالة العوائق للتوظيف، وأن نرفع من كفاءة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بفاعلية، وإيجاد منافذ اقتصادية جديدة، وتنمية القرى والأرياف. بدلا من سبر تلك الفرص، تفتقت الأذهان عن اختراع كائن جديد اسمه "المقابل المالي" يصدر في "تنظيم" وليس نظاما ـــ في تذاكٍ غير موفق على النظام الأساسي للحكم الذي ينص على أن الرسوم والضرائب لا تفرض إلا بموجب نظام ـــ لتمرير تكلفة إضافية على أرباب العمل لإرغامهم على سعودة الوظائف. بالطبع ما حدث لمعدل التوظيف للسعوديين ماثل للعيان ولا يحتاج إلى تبرير أو إسهاب. والجامعات والثانويات تمدنا بلا توقف بأعداد ضخمة من الجنسين وإن استطعنا التماحك قليلا، وطمس بعض معالم الصورة الحقيقية، فلن نتمكن من الاستمرار في اصطناع وهم توفير الوظائف بمجرد فرض رسوم مالية. توفير الوظائف لا يتم بضغطة زر، وفرض رسم، بل لا بد من عمل واستثمار.
لا أعرف كم لدينا من أزمة. ولكن الأكيد أن الرسم أو المقابل المالي ـــ بغض النظر عن نظاميته ــــ ما انفك يغازل كل من يتسنم موقع المسؤولية مع أنه لم ـــ ولن ـــ يجدي في معالجة المصاعب. نحتاج إلى أشياء كثيرة ـــ لا أعرف تفاصيلها ـــ لمعالجة ما نواجه، ولكن أجزم يقينا أن فرض مزيد من الرسوم والضرائب ليس كفيلا بمعالجة ما لدينا من تشوهات جينية وتاريخية وتكنوقراطية وتعليمية وتنموية. الرسوم أداة جميلة ـــ أحيانا ـــ للتمويل ولزيادة العوائد الحكومية فقط، وفقط لا غير. بقية الوظائف المتوقعة منها غير مأمونة المخاطر وغير مضمونة النتائج. ولذا، فالاعتماد على الرسوم فقط وتوقع نتائج مبهرة وهم وضلال يعيشه معتنق تلك العقيدة فترة من الزمن ويحاول دفع ذلك الوهم بتنفس اصطناعي عبر محاولات تمويه الحقائق وتزيين الأرقام وتمييع النتائج المعاكسة .. حتى حين. بعدها يفيق ـــ ويفيق المغرر بهم - على فاجعة الواقع المختلفة لفرض الرسوم.
مع التغيرات الهيكلية في أجهزة الدولة، أتمنى من كل مسؤول لديه ملفات شائكة، أن يتأمل قبل اقتراح مزيد من التكاليف والأعباء المالية .. قد تكون الرسوم جزءا من الحل، ولكن الأكيد أنها في كل أنحاء العالم ليست الحل بانفراد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي